"لأننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي،
فلنا في السموات بناء من اللَّه،
بيت غير مصنوع بيدٍ أبدي" ]1[.
بقوله: "نحن نعلم" يكشف عن يقين الرجاء الذي فيه أن له موضع في السماء يدعوه بيتًا، إما حياته هنا فيدعوها "خيمة" لأنها غير مستقرة. هناك يجد له بيتًا أو مسكنًا، أو موضع راحة، أو بيت أبيه أو البيت الأبدي. إنه في الأعالي قام ببنائه اللَّه نفسه أعده لمحبوبيه، لا يُقارن بأي قصرٍ في هذا العالم.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن البعض يقولون بأن المنزل الأرضي هو العالم، لكن يبدو له أنه بالأحرى يشير الرسول إلى الجسد.
يقصد بالخيمة جسم الإنسان الذي تقطن فيه النفس كما في خيمة أثناء رحلتها في برية هذا العالم حتى تدخل كنعان السماوية. حينما تنحل الخيمة أو الجسد تنطلق النفس إلى الفردوس لترى مسكنًا جديدًا اختبرت عربونه وهي في الجسد، تقيم فيه حتى يوم الرب فيلبس جسدها عدم الفساد ويعيش الإنسان بكل كيانه في السماء عينها.
ماذا يعني بالبناء من اللَّه؟ يرى البعض أن الرسول يشير هنا إلى مركبة سماوية معينة يبعث بها اللَّه إلى النفوس عند خروجها من الأجساد، والبعض يظن أنها تشير إلى قيامة الجسد، وآخرون يروا أنها إشارة إلى الحالة المطوَّبة للقديسين المتمتعين بملكوت اللَّه. جسمنا الحاضر هو خيمتنا الأرضية، جسمنا المُقام هو بيتنا السماوي.
جاء في العظة الخامسة للقديس مقاريوس أن المسيحي الحقيقي إذ صارت له شركة الروح القدس، لأنه مولود من اللَّه من فوق، قد صارت مدينته في السماوات (في 20:3)، يكشف له الروح "الخيرات الأبدية كما في مرآة". إنه يهبه سلام المسيح ومحبة الرب وشهوة السماء، وذلك خلال الآلام والعرق والتجارب والحروب الروحية الكثيرة، لكنه ينعم بهذه الأمور بنعمة اللَّه. المسيحي الحقيقي يدخل إلى خبرة مجدٍ سماويٍ خارج عن الجسد، إذ يُجرح بجمالٍ آخر (غير جسدي) لا ينطق به: "أولئك الذين تساقط عليهم ندى روح الحياة، أي ندى اللاهوت، فجرح قلوبهم بحب إلهي للمسيح الملك السماوي، وارتبطوا بذلك الجمال والمجد الفائق الوصف والحسن عديم الفساد وغنى المسيح الملك الحقيقي الأبدي، الغنى الذي يفوق الوصف".
بهذا الغنى يتدرب الإنسان على الحياة الملوكية، حتى متى جاء يوم الرب العظيم يدخل الملكوت فلا يراه غريبًا عنه، إنما عاش في عربونه وتمتع بغناه بالروح القدس وهو على الأرض.
v يلزمنا نحن جميعًا أن نجتهد ونسعى في كل نوعٍ من الفضيلة، وأن نؤمن أننا سنقتني ذلك البيت ونمتلكه منذ الآن. لأنه إن كان بيت جسدنا يُنقض فليس لنا بيت آخر للنفس لكي تدخل فيه.
القديس مقاريوس الكبير
v يتحدث بولس هنا عن عالمين مختلفين، واحد أرضي مصنوع بأيدٍ منظور، والآخر غير منظور مصنوع بغير أيدٍ، سماوي. على الأرض نفوسنا تلتحف بالجسد والدم وهما الجسم المنظور العضوي. لكن ما أن يُترك هذا الجسم تتحرك النفس نحو الجو السماوي حيث تستعيد جسمها لكنه جسم يتحول إلى جسمٍ سماويٍ.
القديس ديديموس الضرير
v مرة أخرى يلمح بولس إلى القيامة التي لم يفهمها كثير من الكورنثيين أو لم يقبلوها. الخيمة الأرضية هي جسمنا. ومما لا يمكن إنكاره أنها ليست من صنع أيدٍ، ولكن بولس في بساطة يقارنها بالبيوت التي نعيش فيها. لم يكن يحاول أن يقدم مغايرة دقيقة بين الأرضي والسماوي بل بالأحرى أن يمجد الأخيرة قدر المستطاع.
v ما هو المسكن؟ اخبرني. الجسم غير الفاسد الذي سنلبسه في القيامة. الآن نحن نئن، لأن ما سيحدث فيما بعد أفضل بكثير مما نحن عليه الآن... فإنه بالتأكيد ليس جسدًا ينزل إلينا من فوق. إنما التعبير يعلن عن النعمة التي تُرسل إلينا من فوق... لذلك يدعوها من هنا فصاعدًا ليست خيمة بل بيتًا، وهذا بالأحرى أكثر مناسبة. لأن الخيمة بالحق يمكن تمزيقها إلى قطع، أما المسكن فيبقى بلا تغيير.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v الجسم السماوي ليس شيئًا مختلفًا، إنما هو ذات الجسم الذي لنا الآن والذي سيتحول.
ثيؤدورت أسقف قورش
v بخصوص طبيعتنا الجسمية يلزمنا أن نفهم أنه لا يوجد جسم واحد نستخدمه الآن في انحطاطٍ وفسادٍ وضعفٍ، وجسم مختلف نستخدمه فيما بعد في عدم فساد وفي قوةٍ ومجدٍ. وإنما هو ذات الجسم، تُنتزع عنه الضعفات الحاضرة، ويتحول إلى شيء من المجد ويصير روحانيًا. النتيجة هي أن ما كان إناءً للَّهوان هو نفسه يتنقى ويصير إناءً للكرامة ومسكنًا للطوباوية. ويلزمنا أن نؤمن أن جسمنا يبقى على هذا الحال إلى الأبد بدون تغيير كإرادة الخالق. لقد تحققنا من هذه الحقيقة الأكيدة بعبارة الرسول بولس حيث يقول: "لنا في السموات بيتًا غير مصنوعٍ بيدٍ أبدي".
العلامة أوريجينوس
v من جانب فإن جسمنا الفاسد هو ثقل على نفوسنا، ومن جانب آخر فإن علة هذا العائق ليس في طبيعة الجسم وجوهره. لذلك إذ نعرف فساده لا نرغب في أن نتعرّى من الجسم بل بالأحرى أن يلبس عدم فساده. في الحياة الخالدة سيكون لنا جسم، لكنه لن يصير بعد ثقلاً إذ لا يكون بعد فاسدًا.
v لقد تثقلنا إذن بهذا الجسم الفاسد. لكننا إذ نعلم أن حالة الثقل هذه ليست من طبيعة الجسم وجوهره إنما من فساده، لذا فإننا لا نرغب في أن نتخلص منه بل أن نلبسه مع عدم فساده. عندئذ سيوجد جسم، لكنه لا يعود يكون ثقلاً لأنه لا يعود يكون فاسدًا.
القديس أغسطينوس
v لنتحدث الآن عن الزهد الذي أعلنه الكتاب المقدس والتقليد في أنواع ثلاثة. ليتأمله كل إنسان بدقة لكي يصير كاملاً.
النوع الأول هو الذي يختص بالجسد، فيزهد الإنسان الثروة والممتلكات التي في هذا العالم.
والنوع الثاني فيه ننبذ أساليب السلوك والرذائل القديمة الخاصة بالروح والجسد.
والنوع الثالث فيه تتحرر الروح من كل الحاضرات والمرئيات متأملة في الأبديات، فينشغل القلب بغير المنظورات.
لقد سمعنا أن اللَّه طلب من إبراهيم أن ينفذ هذه الأنواع الثلاثة (من الزهد) دفعة واحدة، إذ قال له: "اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك" (تك 1:12)...
إذا نفذنا النوع الأول من الزهد بكل إخلاص وأمانة، لا ننتفع كثيرًا ما لم نكمله بالنوع الثاني بنفس الغيرة والاشتياق. فإذا ما نجحنا في هذا يمكننا أن نبلغ النوع الثالث حيث نخرج من "بيت أبينا" القديم، إذ "كُنَّا بالطبيعة أبناءَ الغضب كالباقين أيضًا" (أف 3:2)، مثبتين أنظارنا تجاه العلويات. ويُحدّث الكتاب المقدس أورشليم - التي احتقرت اللَّه الأب الحقيقي- عن الأب القديم قائلاً: "أبوكِ أَموريّ، وأمك حثّيَّة" (حز2:16). وفي الإنجيل جاء: "أنتم من أبٍ هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 24:
.
فإذ نترك هذا الأب عابرين من المنظورات إلى غير المنظورات نستطيع أن نقول مع الرسل: "لأننا نعلم أنهُ إن نُقِض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من اللَّه بيت غير مصنوعٍ بيدٍ أبديّ" (2 كو 1:5)، ونقول أيضًا: "فإن سيرتنا نحن هي في السماوات التي منها أيضًا ننتظر مخلّصًا هو الربُّ يسوع المسيح الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجدهِ" (في 20:3، 21)، وننطق بما يقوله داود الطوباوي: "غريب أنا في الأرض" (مز 19:119)...
يلزمنا أن نكون مثل أولئك الذين يُحدّث الرب أباه عنهم قائلاً في الإنجيل: "ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم" (يو16:17)، وأيضًا محدثًا التلاميذ أنفسهم قائلاً: "لو كنتم من العالم لكان العالم يحبُّ خاصَّتهُ. ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم" (يو19:15).