تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب
أمثال سليمان 5 - تفسير سفر الأمثال
صوت الزانية
بعد أن تحدث عن طريق الحكمة من الجانبين الإيجابي والسلبي (ص4)، بدأ يحذرنا من حبائل المرأة الزانية، خاصة من صوتها اللَين كالزيت، مخصصًا الأصحاحات 5-7 لهذا التحذير.
كل إنسان يميل بأذنيه الداخليتين إلى صوت المرأة الزانية المخادعة بالعذوبة الظاهرة لا يستطيع أن يميلهما إلى صوت الحكمة. يروي لنا سفر الملوك الأول القصة المُرة لسليمان نفسه وقد مال بأذنيه لابنة فرعون وغيرها من الأجنبيات ففقد ملكوت الله الذي في أعماقه. "وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون... فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه... وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تمامًا كداود أبيه" (1مل1:11-6).
يطالبنا الحكيم أن نتجنب كل ما يمكن أن ينحرف بنا إلى خطية الزنا، أو مجرد الميل إليها بالفكر. فإن أفكار الشهوة قاتلة لكل بذور الفضيلة، والذين يسقطون في حبائلها يصيرون على مقربة من أبواب الهاوية.
1. دعوة لطلب الحكمة 1-2.
2. سمات المرأة المنحلّة 3-14.
3. علاج الانحلال 15-21.
4. نهاية الشر 22-23.
1. دعوة لطلب الحكمة
لكل إنسانٍ أذنان في أعماقه تنصتان إلى صوتٍ أو آخر، فمن لا تنصت أذناه لصوت الحكمة حتمًا تنصتان إلى الأصوات الغريبة مثل صوت المرأة الزانية المخادعة. لهذا قبل أن يحذرنا من هذا الصوت المدمر يقدم لنا الصوت الأبوي الحكيم البنَّاء.
يكرر الحكيم هذه الدعوة لكي يصغي المؤمن ويميل بأذنيه كما بقلبه إلى صوت أبيه الروحي، ويحفظ التدابير وتصير له معرفة تنطق بها شفتاه.
"يا ابني أصغِ إلى حكمتي.
أمل أذنك إلى فهمي،
لحفظ التدابير،
ولتحفظ شفتاك معرفة" [1-2].
يدعونا للتمتع بالخبرات الحية الروحية التي يعيشها الأب الروحي في الرب.
تحدث القديس يوحنا كاسيان في الكتاب الرابع من "المؤسسات" في الفصلين 9 و10 عن التزام الحديثين في الرهبنة ألا يعتمدوا علي تمييزهم الشخصي، ولا يخفون شيئًا من أفكارهم عن الشيخ المختبر الذي يتعهدهم. بهذا لا يقدر الشيطان أن يدمر الشخص الحديث اللهم إلا إذ أغواه بالكبرياء وإخفاء أفكاره. وأن تكون طاعة الرهبان الحديثين كاملة، حتى أنهم لا يستطيعوا مغادرة قلاليهم ولا الذهاب لقضاء احتياجاتهم الطبيعية بدون إذن. يطيعون بثقة ويقين وبلا تردد كما لو كان الأمر صادرًا من السماء.
* من كان له الفكر الصالح وفي اتضاع مع شوق يتمثل بإخلاص بما يراه، سواء خلال التعليم أو اقتداءً بما يراه في الآباء، بدلاً من الانشغال في الجدال، بهذا تستقر فيه معرفة كل شيء باختبارٍ عملي. أما الذين ابتدأوا تعلمهم بالجدال، فلن يدخلوا إلى غاية الحق… لذلك فإن عدونا (الشيطان) يدفعهم بسهولة بعيدًا عن معرفة الآباء، حتى لتبدو لهم الأمور المفيدة والنافعة كأنها غير ضرورية، بل ومضرة. بهذا يلعب العدو الماكر بفطنة، جاعلاً إياهم يتمسكون برأيهم الخاص في عناد ، مقتنعين بأن ما يملأ عقولهم النجسة من أخطاء هو صلاح وحق ومقدس[134].
الأب بيامون
* مكتوب: يا ابني أصغِ إلى حكمتي، أمل أذنك إلى تعقلي، لكي تُحفظ أفكارك [1]. فإنه حقًا ليس شيء مثل القلب يحاول الهروب (من الحكمة)، هذا الذي يخذلنا عندما ينزلق بالأفكار الشريرة، لهذا يقول المرتل: "قلبي قد تركني" (مز12:40)[135].
الأب غريغوريوس (الكبير)
يطلب الحكيم من ابنه الروحي أن يصغي كما يسأله أن يميل بأذنه إلى فهمه، فإن كان الإصغاء يشير إلى الرغبة في التعلم والاستعداد للطاعة، فإن ميل الأذن الداخلية يشير إلى العلاقة السرية الخفية، فمن يميل بأذنه ليستمع همسات آخر إنما يعلن عن شوقه للاستماع إلى كلمات خاصة غير معلنة. يقدم الإنسان مع أذنه قلبه وكل مشاعره وأحاسيسه.
استخدم الحكيم تعبير "أمل أذنك إلى فهمي" ربما نقلاً عن والده الذي كان يحلو له أن يناجي الله قائلاً: "أمل أذنك إلىَّ (مز6:17). فقد أمال الآب أذنه إلى البشرية بنزول ابنه إلينا، يتحدث معنا ونحن معه كما في علاقة شخصية سرية، يسمعها القلب وتتجاوب معها النفس بكل طاقاتها الخفية.
لكي لا نستمع إلى صوت المرأة الزانية أو الخطية المخادعة فلنمل أذننا إلى حبيبنا السماوي قائلين: "صوت حبيبي، هوذا طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (نش8:2).
يرى القديس إكليمنضس السكندري في الآية 2 "لحفظ التمييز ولتحفظ شفتاك معرفة" كشفًا عن نظرة المسيحية إلى الثقافة أو المعرفة العلمانية، إذ يقول:
* إنه ينصحنا أن نستخدم حقًا الثقافة العلمانية، لكن لا نتباطأ ونقضي وقتًا (طويلاً) فيها. فما يُمنح لكل جيل بطريقة نافعة وفي أوقات مناسبة، هو تدريب بدائي لكلمة الرب. فإنه فعلاً إذ سقط البعض في حبائل الوصيفات احتقروا فلسفتهم المرافقة لهم، وشاخوا. سقط البعض خلال الموسيقى، وآخرون الرياضيات، وآخرون النحو، والغالبية البلاغة[136].
القديس إكليمنضس السكندري
استخدم ملاخي النبي تعبير "حفظ الشفتين للمعرفة" قائلاً: "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (ملا7:2). وكأن فم المؤمن الحيّ يصير أشبه بخزانة للمعرفة تحت حراسة الشفتين الحكيمتين، تخرجان من هذه الكنوز حسب الحاجة وبالقدر اللائق لبنيان النفوس.
2. سمات المرأة المنحلّة
إن كانت شفتا المؤمن المنصت لصوت الحكمة تحفظان معرفة فإن شفتيْ المرأة المنحلة تنساب منهما كلمات معسولة لينة كالزيت.
"لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً،
وحنكها ألين من الزيت.
لكن عاقبتها مرة كالأفسنتين،
حادة كسيفٍ ذي حدّين" [3-4].
سبق لنا الحديث عن المرأة الأجنبية في هذا السفر، أنها تعني امرأة أممية زانية، لأنه بحسب الشريعة المرأة الإسرائيلية التي تُضبط في الزنا تُرجم. لذلك جاءت بعض الشريرات وسكنّ في وسط إسرائيل. وربما تعني أيضًا الإسرائيلية الساقطة في الزنا سرًا، فإنها تُحسب أجنبية وغريبة لأنها فصلت نفسها عن العهد الإلهي وفقدت انتسابها للشعب المقدس.
كلماتها من الخارج حلوة كالعسل، وفي الداخل مرة للغاية كالأفسنتين؛ من الخارج لينة كالزيت ومن الداخل كسيفٍ قاتلٍ ذي حدّين. يرى البعض أن العاقبة المرة كالافسنتين والسيف ذو الحدين هي الأمراض التناسلية التي يعاني منها كثير من الساقطين في الزنا[137]. ولعل الله سمح بذلك لكي خلال ما يحل بالجسد يدرك الإنسان خطورة ما يحل بالنفس. فإن كان العالم قد اهتز منذ سنوات قليلة بسبب اكتشاف مرض الإيدز الذي غالبًا ما ينتقل خلال العلاقات الجسدية الخاطئة، فإن البشرية ستهتز حينما يفقد الكثيرون أبديتهم ومجدهم السماوي وشركتهم مع السمائيين بسبب الاستعباد للشهوات الجسدية الدنسة.
غالبًا ما يُقصد بالشفتين والفم هنا القبلات المثيرة للشر مع الكلمات العاطفية الغاشة.
يتطلع الإنسان الحكيم إلى المرأة الشريرة بفمها ذي الشفتين الناعمتين كعدوٍ خطيرٍ يقف ممسكًا بسيف ذي حدين. كل شفاه أشبه بحد سيف، أينما توجه السيف يقطع ويدمر... هكذا فم الشريرة.
* يُقدم أحدهم هذه النصيحة: "لا تُلاحظ جمال المرأة الأجنبية، ولا تلتقي بامرأة تُدمن الزنا. إذ تقطر شفتا الزانية عسلاً، الذي إلى حين يبدو لينًا لحنجرتك، لكنه بعد ذلك تجده أكثر مرارة من الأفسنتين، وأكثر حدّة من سيفٍ ذي حدّين. فالمرأة الزانية لا تعرف كيف تُحب بل تصطاد؛ قبلاتها مملوءة سمًّا، وفمها مخدِر ضار. إن كان هذا لا يظهر في الحال، فبالأكثر يجب تجنبها، لأنها تحجب هذا التدمير وتختم على هذا الموت ولا تسمح له بالظهور في البداية[138].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* تبدو ملامح الزانية مقبولة. أنا أعلم ذلك، إذ يقول الكتاب: "شفتا المرأة الأجنبية تقطران عسلاً" [3]. لهذا السبب احمل كل هذا التعب حتى لا تكون لك خبرة هذا العسل، فإنه في الحال يتحول إلى إفسنتين. هكذا يقول أيضًا الكتاب المقدس: "هذا الذي إلى حين ليّن لحنجرتك، لكنه بعد ذلك تجده أكثر مرارة من الإفسنتين، وأشد حِدّة من سيفٍ ذي حدّين" [3،4 LXX][139].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* هكذا حرم الإنسان نفسه من ثمار الأمور الصالحة وملأ (بطنه) بالثمر الذي يجلب دمارًا خلال العصيان[140].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
"قدماها تنحدران إلى الموت.
خطواتها تتمسك بالهاوية.
لئلا نتأمل طريق الحياة،
تمايلت خطواتها ولا تشعر" [5-6].
بدأ وصفه للمرأة الزانية بشفتيها اللتين تقطران عسلاً مسمومًا، قد دهنتهما بزيت الخداع لتسحب كل قلب إليها. من يستمع إليها ينزل إلى الأسافل، "قدماها تنحدران إلى الموت"، ولا يرتفع إلى قمم الجبال العالية والتلال الراسخة، فيعجز عن إدراك صوت حبيبه الحقيقي. يفقد قدرته على الترنم قائلاً: "صوت حبيبي. هوذا آتيًا طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (نش8:2). وكما يعلق القديس غريغوريوس النيصي على هذه التسبحة الرائعة فيقول بأن العروس وقد تيقظت بطرق كثيرة بلغت قمة السعادة. لقد تحدث معها عريسها خلال الآباء والأنبياء، خلال الجبال والتلال، والآن قدُم إليها بنفسه ليتحدث معها فمًا لفمٍ ووجهًا لوجهٍ[141].
خطورة المرأة الزانية أن حركاتها تميل يمينًا ويسارًا، أو خطواتها غير ثابتة، لهذا تسحب قلب من يرتبط بها إلى حيث لا يدري. الأمر الأكيد أنها تضم معها من يرتبط بها إلى مملكة الموت.
في البداية تظهر كحيّة تبث سمومها، شهواتها الباطلة تشكل كل كيانها وحركاتها وكلماتها لكي تحدر النفوس إلى الموت آجلاً أو عاجلاً. الالتصاق بها يُسرع بالجسد إلى الدمار ويُسقط النفس في الموت الأبدي. إنها تسحب القلب والفكر من التأمل في طريق الحياة الأبدية، ليس علانية، ولكن بالخداع ومع مرور الزمن ينسى المُلتصق بها يوم الدينونة، فلا تشتهي نفسه أكاليل المجد، ولا تخشى نار جهنم.
العلامات الظاهرة لطريق الخطية هي: العاطفة والحب والعذوبة والتنعم والحياة المترفة والتدليل والميوعة... أسماء براقة جذابة للإنسان، فيظن أن الحياة بدونها لا طعم لها، أما العلامات الخفية الحقيقية لهذا الطريق فهي الموت والهاوية والدمار الأبدي. وإذ وضع الحكيم هذا اليوم العظيم أمام أعين تلاميذه يقول:
"والآن أيها البنون اسمعوا لي،
ولا ترتدّوا عن كلماتي" [8].
* حسنًا، لقد بدأ يخاف يوم الدينونة.
ليته بالخوف يُصلح حياته، ليسهر ضد أعدائه، أي خطاياه.
ليبدأ ينطلق نحو الحياة الداخلية مرة أخرى ويميت أعضاءه التي على الأرض كقول الرسول[142].
القديس أغسطينوس
"أبعد طريقك عنها،
ولا تقرب إلى باب بيتها" [9].
يُقدم لنا الحكيم هذه النصيحة، وهي الابتعاد عن طريق الخطية وعدم الاقتراب إلى مدخل بيتها، حتى لا تسقط في حبائلها.
* هذه النصيحة التي يُقدمها لنا كاتب الأمثال: "أبعد طريقك عنها، ولا تقرب إلى باب بيتها" [8] هي بخصوص الزانية. أود أن أردد نفس الأمر بالنسبة لمحبة المال. فإنه بالدخول التدريجي إليها تسقط في محيط الجنون ولا تقدر أن تتخلص منها بسهولة. فتكون كمن في عاصفة، تجاهد ما استطعت لكنك لا تبلغ إلى الخلاص منها بسهولة. فإنك بعدما تسقط في هوة الطمع الشريرة تحطم نفسك وكل ما تملكه (أع20:
.
هكذا نصيحتي هي أنه يلزمنا أن نحذر من البداية، ونتجنب الشرور الصغيرة، فإن الشرور العظيمة تصدر عن هذه[143].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"لئلا تُعطي زهرك (كرامتك) لآخرين،
وسنينك للقاسي" [9].
بالمعنى الحرفي يحذر الحكيم الإنسان الذي تخدعه الخطية، خاصةً الزنا، لئلا يكتشف الزوج ما يفعله هذا الساقط مع زوجته الخائنة، فيفقد كرامته أمامه، بل وأمام الجماعة كلها، ويُحكم عليه بالموت، أو يسقط تحت عقوبات تمرر حياته. أما روحيًا، فإن ما هو أخطر أن ما يرتكبه الإنسان تعرفه السماء، فيفقد موضعه هناك، ولا يكون له نصيب بين السمائيين والقديسين. يفقد بهاءه الذي كان يليق به أن يقتنيه بالتقائه الدائم مع الله وشركته مع السمائيين، فيهوي مع إبليس وجنوده إلى المذلة والعار والهوان.
إذ يتهاون الإنسان مع نفسه ويقترب من الخطية أو يقف بجوار بابها، يفقد احترامه لنفسه وينسى كرامته في الرب، ويُسلم بقية عمره لعدو الخير. الخطية، خاصة الزنا، غالبًا ما تبدو رقيقة ولطيفة، لكنها تُخضعنا لسيد عنيف، مستبدٍ، ومحطمة للنفس ولكرامتها الحقيقية.
* من هم غرباء عنا إلا الأرواح المهلكة التي انفصلت عن جماعة السمائيين؟ وما هي كرامتنا سوى أننا بالرغم من كوننا أجسادًا من الطين خُلقنا على صورة صانعنا ومثاله؟! أو من هو عنيف إلا الملاك المرتد الذي أصاب ذاته بألم الموت خلال الكبرياء ولم يتوقف عن أن يجلب الموت على الجنس البشري مع أنه هو نفسه مفقود؟! لذلك يُعطي كرامته للغرباء ذاك الذي خُلق على صورة الله ومثاله وكرّس أزمنة حياته لملذات الأرواح المُهلكة[144].
الأب غريغوريوس (الكبير)
"لئلا تُشبع الأجانب من قوتك،
وتكون أتعابك في بيت غريب.
فتنوح في أواخرك عند فناء لحمك وجسمك" [10-11].
الشر كالعاصفة العنيفة تهبّ فتُحطم كل شيء. حينما يرتكب الإنسان الخطية، خاصة الزنا، يظن أنه يتمتع بنوعٍ من الشبع عِوض الحرمان، وهو لا يدري أنه يُسلم قوته لعدو الخير، ويُسلم كل ما يملكه إلى بيتٍ غريبٍ، ليس فقط من الجانب الروحي، بل حتى في الأمور المادية، إذ غالبًا ما تنتهي حياته بالمرارة. يفقد الكثير من ممتلكاته ويخسر صحة جسده.
ربما يقصد هنا أنه إذ يُكتشف أمر الزاني يلتزم بالإنفاق على من سقط معها في الزنا، وعلى المولود منها مدى الحياة، بهذا يشبع الأجانب من قوته ويكون تعبه في بيت غريب.
"فتقول: كيف إني أبغضت الأدب،
ورذل قلبي التوبيخ،
ولم اسمع لصوت مرشدي،
ولم أمل أذني إلى مُعلمي.
لولا قليل لكنت في كل شرٍ في وسط الزمرة والجماعة" [12-14].
الأمر ليس كما يظن البعض مجالاً للتسلية، لكنه بحق خطير، فما يزرعه الإنسان إياه يحصد. ولعلنا نرى الآن كيف تئن المجتمعات من ثمار الانحلال الذي بذرته في قلوب الأجيال الجديدة فحصدت مرارة ودمارًا.
حسب الشريعة الموسوية يتعرض الزاني للرجم حتى الموت (تث22:22)، لكن ما هو أخطر يفقد الإنسان الحياة الأبدية.
مع أنه في وسط الزمرة والجماعة، أي في وسط كنيسة العهد القديم أو العهد الجديد، لكنه حرَم نفسه من سلامها وفرحها، وعزل نفسه بنفسه عنها خلال عدم سماعه لصوت أبيه الروحي، مرشده ومعلمه. رفض التأديب والتوبيخ ففقد عضويته الكنسية حتى وإن حملها في الظاهر.
* من يعتمد على رأيه الذاتي، ولو كان قديسًا، فهو مخدوع، وخطر خداعه أخطر من خطر المبتدئ الذي سلم تدبيره بيد غيره. فالأول يشبه ربان سفينة ألقى بنفسه في مركبٍ بلا شراع ولا مجدافٍ في وسط البحر، متكلاً على حذاقته وفن تدبيره. والثاني أي المبتدئ يشبه من لا خبرة له في سفر البحر، فيطلب من نوتيٍ ماهرٍ أن يركبه في سفينته العامرة بكل لوازمها واحتياجاتها.
فلا ينخدع أحدكم ويهرب من نير الطاعة اللين، عازمًا أن يتمسك برأيه في الأمور الروحية مثل الصوم والصلاة وغير ذلك من علامات الإيمان والنسك، ظانًا أنه بذلك يخلص!!
يوحنا الذهبي الفم
* الطاعة...هي جحود النفس، موت المشيئة، قبر الهوى، قيامة الاتضاع...
الطاعة موت أعضاء الجسد وهوى النفس، وذلك يكون للمبتدئ بألم، وللمتوسط تارة بألم وأخرى بلا ألم، وأما الكامل فلا يشعر بألم إلا إذا فعل شيئًا بحسب هوى نفسه...
فالذين يريدون أن يحملوا نير المسيح على رقابهم، ويُحّملون أحمالهم على رقاب غيرهم (آبائهم أو مرشديهم الروحيين)، سبيلهم أن يرفضوا أهواءهم الذاتية ويفعلون ما يرون أنه موافق لإرادة الله.
* بلا مدبر لا تكون السلامة. فمن الطاعة الاتضاع، ومن الاتضاع الشفاء من الآلام. فقد كُتب أنه باتضاعنا ذكرنا الرب وخلصنا من أعدائنا.
يوحنا الذهبي الفم
* يا لسعادة من يميت إرادته ويترك تدابير نفسه لذاك الذي أعطاه اللّه إياه أبًا ومعلمًا، فسيكون مكانه عن يمين يسوع المسيح المصلوب.
* الذي يطيع أباه مرة ويخالفه مرة، ويطيعه في شيء ويخالفه في آخر، فهو تارة يبنى وأخرى يهدم، فيكون تعبه باطلاً.
* ذاك الذي يطيع أباه الروحي تارة ويعصاه أخرى، مثله مثل الذي يضع تارة ماء جيدًا لعينيه المريضتين، وأخرى يضع عليهما كلسًا حارًا.
قال الآباء أن التسبيح بالمزامير سلاح، والصلاة حفظ، والدموع النقية غسل، والطاعة الفاضلة شهادة، فبغير اعتراف وطاعة لا يخلص الخطاة.
* إن طريق الطاعة هو أقصر المسالك، وإن يكن أكثرها صعوبة. ولا يوجد إلا طريق واحد متى سلكنا فيه ضللنا: وهو الذي ندعوه "الاتكال على الذات وعلى إرادتنا الشخصية".
* الطاعة احتجاج أمام اللّه. فان سُئلت منه: لماذا فعلت هذا؟ تجيبه "أنت يا سيد أمرت بالطاعة، ,أنا فعلت ما أمرت به" ،فتجاوبه هكذا وتتبرر.
إن السفر بهذه السفينة فيه أمان من الغرق. فيسافر الإنسان وهو نائم، كما يسافر الإنسان في السفينة نائمًا ولا يلتزم بتدبيرها، لأن مدبرها حاضر. هكذا حال الإنسان السائر تحت الطاعة، يسافر نحو السماء والكمال وهو نائم من غير تعبٍ ولا تفكير فيما ينبغي أن يفعل. لأن الرؤساء هم مدبرو هذه السفينة والساهرون من أجله. لعمري أنه ليس بالأمر الهين بل هو عظيم جدًا. فالإنسان يجتاز بحر هذا العالم وهو على ساعد غيره وذراعه!! هذه هي النعمة الكبرى التي يفعلها الله مع السالك تحت الطاعة.
القديس يوحنا الدرجي
3. علاج الانحلال
"أشرب مياهًا من جُبّك،
ومياهًا جارية من بئرك" [15].
قديمًا كان أصحاب البيوت والحقول يعتزون بالآبار التي يشقونها والجُب الذي يحفرونه كأشياء خاصة وثمينة للغاية (2مل31:18؛ إر6:38).
هنا يشير إلى الأمانة في الحياة الزوجية، حيث يرتبط الزوجان معًا في الرب، فيشرب كل منهما من جبّه، حيث يرى مياه الحب في قلب الطرف الآخر، حاسبًا إياها جُبُّه وبئرُه العميق وينبوعه.
يقدم الحكيم هنا نظرة سامية ومقدسة للحب الزيجي، في وقت كان فيه الحديث عن العلاقات الجسدية بين الزوجين يُعتبر أمرًا مخجلاً ومشينًا. هنا يعلن أن الزواج يقدسه الله، فيشعر كل من الزوجين بتقديره للآخر وتقديس المشاعر العاطفية، وحتى جسده وجسد الطرف الآخر. يحدث الرسول بطرس الأزواج، قائلاً: "معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضًا معكم نعمة الحياة لكي لا تُعاق صلواتكم" (1بط7:3).
من يطلب العاطفة أو الحب الشهواني أو يُسلم جسده لآخر غير (زوجته أو زوجها) إنما يفيض بينبوعه إلى الخارج، ويُبدد مياهه في الشوارع، يفقد ما له حيث يُسلم مياه حبه لأجنبي.
يلاحظ أن كلمة "بئر" أو "جب" في العبرية بصيغة المفرد، كأن سليمان الحكيم الذي لظروف سياسية سقط في تعدد الزوجات يوضح هنا ارتباط الشخص بزوجة واحدة، التي يتطلع إليها كينبوعه الواحد، كما تتطلع هي إلى زوجها ينبوعها الواحد... الله خلق حواء وحدها لآدم، ويكون هو لها.
* يقول إشعياء "أيها العطاش هلمّوا إلى المياه" (إش1:55). ويحثنا سليمان: "اشرب مياهًا من آنيتك"...
أفلاطون الفيلسوف الذي تعلّم من العبرانيين يأمر الأزواج ألا يشربوا أو يأخذوا ماءً من آخرين، بل يحفروا أولاً في أرضهم (الارتباط بالزوجة وحدها) التي يُقال عنها أنها أرض بكر[145].
القديس اكليمنضس السكندري
* إن تطلعت في غير طهارة مشتهيًا زوجة قريبك، يكون نصيبك مع الزناة... دعْ ينبوعك لك واشرب ماء من بئرك. لتكن ينابيعك لك وحدك ولا تدع آخر يشرب معك. اطلب طهارة جسدك كما تطلب ذلك من الطرف الآخر. فإنك كما لا تريد زوجة صباك أن تتنجس مع رجلٍ آخر، لا تتنجس أنت مع امرأة أخرى زوجة رجل آخر[146].
مار أفرآم السرياني
* ليكن ينبوع مياهك (زوجتك) لك وحدك وليس لأجانب معك… عندئذ لا تهتم بنهرٍ غريب (سيدة أخرى) ولا أن تبهج الآخريات أكثر من زوجتك. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لئلا إن حُملت إلى موضع آخر، تمارس شريعة النجاسة مع الطرف الآخر أيضًا[147].
القديس غريغوريوس النزينزي
والينبوع الداخلي هو فيض الحب الإلهي الذي يفجره الروح القدس فينا.
* حسنة إذن هذه المياه، التي هي نعمة الروح.
من يهبني هذا الينبوع لصدري؟
لينبع في داخلي، ليفض ذاك الذي يهب حياة أبدية عليّ.
ليفض هذا الينبوع عليّ وليس خارجًا عني. إذ يقول الحكمة: "اشرب مياهًا من جُبكّ، ومياهًا جارية من بئرك، لا تفض ينابيعك إلى الشوارع".
كيف احتفظ بهذا الماء لكي لا يفيض وينحدر بعيدًا؟
كيف احتفظ بالإناء حتى لا يصيبه شق الخطية، فتتسلل منه مياه الحياة الأبدية؟
علمنا أيها الرب! علمنا كما علمت تلاميذك، قائلاً: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يُفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون" (مت19:6)[148].
القديس أمبروسيوس
إن كان الحكيم يتحدث هنا عن نقاوة المتزوجين، فإن حديثه أيضًا ينطبق على نقاوة التعليم. فالمعلم الذي يكرز بما يقوله الآخرون دون أن يختبره في حياته العملية، لا يشرب من مياه جُبّه، ولا يتمتع بمياه بئره. يليق بنا أن نشرب من ينابيع قلوبنا الداخلية حيث يفيض الروح القدس بمياهه فيها فنرتوي ونفيض على الغير.
* افتح رواق قلبك لكلمة الله الذي يقول لك: "افتح فاك وأنا أملأه!" [149]
القديس أمبروسيوس
* كل الذين لا يحبون الله غرباء وأضداد للمسيح. وبالرغم من حضورهم إلى الكنائس لا يُمكن إحصائهم بين أولاد الله، ولا ينتمي ينبوع الحياة إليهم.
إن يعتمد الإنسان هذا ممكن حتى بالنسبة للشرير، أن يتنبأ الإنسان هذا ممكن للشرير! [150]
القديس أغسطينوس
"لا تفض ينابيعك إلى الخارج،
سواقي مياه في الشوارع.
لتكن لك وحدك وليس لأجانب معك" [16-17].
ماذا يعني بالذي يفيض بمياهه إلى الخارج، ويلقي بمياه السواقي في الشوارع؟ إنه ذاك الغبي الذي لا يبالي بقيمة المياه في المناطق النائية، فيبددها برشها في الشوارع.
يرى البعض هنا صورة بعض الرجال في العصور القديمة الذين لم يقدسوا الحياة الأسرية، فلم يكتفي الرجل بزوجة واحدة ليهتم بها مع أبنائهما، بل كل ما كان يشغله إشباع شهواته مع أكثر من زوجة، وإرضائهن جميعهن بأن يكون لهن أطفال منه... حتى أنه أحيانًا لا يعرف أسماء أبنائه من كثرة عددهم، وبالتالي لا يقدم لهم روح الأبوة ويهتم بتربيتهم وخلاصهم[151].
ربما يقصد أن من يشرب من الينبوع الخارجي أي من غير زوجته (أو رجلها) إنما يدفع الطرف الآخر أن يسلم نفسه للزنا. بينما يشرب الرجل من ينبوع ليس له، يفقد ينبوعه (زوجته) التي تسلم عواطفها وربما جسدها لغيره. بهذا يخطئ في حق نفسه وفي حق شريكة حياته.
* عندما ينحرف أي شخص بطاقة أفكاره إلى الشر يكون قد بدد فيض المياه علي الغرباء.
مادمنا نروي طريق حياتنا الذي تنتشر فيه الأشواك بمياه الأفكار الشريرة تجف النباتات الصالحة وتنتهي، لأن جذورها لا تنتعش برطوبة الأفكار الصالحة[152].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
"ليكن ينبوعك مباركًا،
وافرح بامرأة شبابك" [18].
"الظبية المحبوبة والوعلة الزهية،
ليُروِك ثدياها في كل وقت،
وبمحبتها اسكر دائمًا" [19].
* كلمة الله حيّ، والنفس التي تستقبله حيَّة. هذا النوع من الماء يفيض من الله، إذ يقول الينبوع نفسه: "لأني خرجت من قِبَل الله" (يو42:
. لدي العروس فيض من الماء في داخل بئر نفسها، فتصير خزانة لهذا الماء الحيّ الذي يفيض من لبنان (نش15:4) [153].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
ليسلك الزوجان بروح البساطة مع الحب، فكما يشبع الرضيع من ثديي أمه، هكذا يشبع الزوجان من حبهما المشترك.
تشبيه الزوجة بالظبية المحبوبة والوعلة المبتهجة إنما يُشير إلى نقاوة الحب وسرعة التجاوب بينهما. فالظبية ترمز إلى طهارة الجسد، والوعلة المبتهجة إلى سرعة الحركة.
استخدم سليمان الحكيم كلمات مشابهة في سفر نشيد الأناشيد (9:2،17؛5:4؛3:7).
"فلم تُفتن يا ابني بأجنبية وتحتضن غريبة" [20].
الفعل هنا في الأصل يعني أن يجول الإنسان أو يضل حتى يصير أسيرًا. هكذا من يسقط في حبائل زانية (أجنبية) أو زوجة رجل آخر. يظن أنها تتعلق به وتحبه، ولا يدري أنها تأسره في حبال الخطية المحطمة للحرية.
"لأن طرق الإنسان أمام عيني الرب وهو يزن كل سبله.
الشرير تأخذه آثامه،
وبحبال خطيته يُمسك.
إنه يموت من عدم الأدب،
وبفرط حمقه يتهور" [21-23].
يسألنا النقاوة الداخلية والخارجية، فلا نُفتن بأجنبية خلال نظراتنا الخفية أو الفكر، ولا نحتضن غريبة بسلوكٍ عملي. فإن الله ينظر إلى الإنسان ويعرف أسراره الخفية وتصرفاته الظاهرة. وكما يقول الرسول: "ليس خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا" (عب13:4).
من يسقط في الخطية إنما يربط نفسه بحبالها، ويشرب من كأسها، ويأكل ثمارها المهلكة. فالخطية تحمل في داخلها أجرتها، حيث تستعبده وتذله وتهلكه.
* إنك لا تؤذي أحدًا، إنما كل إنسان يُربط بحبال خطيته. (راجع مز15:7-16،6:57) [154].
القديس أغسطينوس
* "ليسقطوا في الفخ (الذي نصبوه)... مجازاة خطيرة، ليس عدل أكثر من هذا! لقد أخفوا فخًا لكي لا أعرفه، ليمسك الفخ بهم الذي لا يعرفونه... الشرير يُربط بحبال خطيته، لذلك يُخدع الأشرار بما يريدون أن يخدعوا به الغير. حينئذ يحل بهم الضرر عندما يودون ضرر الغير. لذلك قيل: "لتمسك بهم الشبكة التي أخفوها، وليسقطوا في فخهم".
إنه كمن يعد كأس سم لآخر، وينسى أنه سيشرب هو منه، أو من يحفر حفرة لكي يُسقط عدوه فيها وسط الظلام ناسيًا أنه سيسير هو أولاً في الطريق الذي حفر فيه ويسقط...[155]
القديس أغسطينوس
* الملذات ذاتها التي نتمتع بها تصير عذابًا لنا، والمباهج والمسرات التي للجسد تتحول إلى معذبين لمن أصدرهم[156]