خليل مردم بك
1895 ـ 1959
المهندس جورج فارس رباحية
وُلِدَ خليل بدمشق سنة 1895 والده أحمد مختار مردم بك والدته فاطمة محمود الحمزاوي مفتي دمشق وعلاّمتها . ينحدر خليل من أسرة تركية عريقة تناسلت من جدّهم التركي : (مصطفى لالا باشا ) (1).لم يكن لخليل إخوة ذكور وإنما كان له خمس شقيقات .
بدأ الدراسة في الكُتَّاب في سن السابعة ، وفي العاشرة من عمره التحق بمدرسة " الملك الظاهر " الابتدائية الرسمية وبعد ثلاث سنوات انتقل إلى المدرسة الإعدادية الرسمية حيث مكث فيها سنة ونيّفاً ثم تركها وارتأى أن يأخذ علوم اللغة والدين عند ثلاثة من أشهر علماء دمشق فدرس الحديث على يد المحدّث الشيخ بدر الدين الحسني ، والفقه من مفتي الشام عطا الكسم والصرف والنحو من الشيخ عبد القادر الإسكندراني ، وبدأ ينظم الشِعْر قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره . توفي والده ولم يُتِم الخامسة عشرة من عمره ، وبعد أربع سنوات توفّيت والدته . وقد طبعه اليتم بطابع الصمت والعزلة والحياء والانطواء على النفس والابتعاد المجتمع ، ولازمه هذا الطبع طوال حياته .
وبجلاء الأتراك عن سورية عام 1918 وقيام الحكومة العربية (السبت في 5/10/1918برئاسة رضا الركابي ) عُيِّنَ مُميّزاً لديوان الرسائل العامة ، وفي عام 1919 عُيِّنَ مدرّساً في مدرسة الكتاب والمُنشئين التي أنشأتها الحكومة لتدريب موظّفيها ، ولما أُعْلِن استقلال سورية وبويع الملك فيصل الأول ملكاً عليها ( الإثنين في 8/3/1920 ) وتألّفت أول وزارة سورية ، نُقِلَ من ديوان الرسائل العامة ، وسُمّيَ معاوناً لمدير ديوان مجلس الوزراء ، وبعد أن دخل الجيش الفرنسي سورية الأحد في 25 تموزعام 1920، صُرِفَ من العمل في الحكومة.
في عام 1921 أسّس مع مجموعة من الأدباء (2) جمعية "الرابطة الأدبية" على غِرار الرابطة القلمية (3) في نيويورك ، وانتُخبَ رئيساً لها وعقدت أول اجتماع لها يوم الجمعة في 4 آذار 1921 ، وكانت أهدافها توحيد قوى الأدباء المتفرّقة وتنظيم صفوفهم ليتسنى لهم الفوز في معترك الحياة الأدبية . ولإظهار نشاط الأدباء أنشأت الرابطة مجلة ناطقة باسمها دعتها : ( مجلة الرابطة الأدبية ) وصدر العدد الأول منها يوم الخميس في 1 إيلول 1921 لكنها توقّفت بعد العدد التاسع لأن الاحتلال الفرنسي بدأ يُضيق الخناق على الرابطة والمجلة معاً ، فحلّ الرابطة وأغلق المجلة .
في عام 1925 انتُخِبَ عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق بعد أن تقدّم إليه برسالة عن شعراء الشام في القرن الثالث الهجري ، وفي هذا العام اندلعت نيران الثورة السورية ، فأخذ يغذيها بقصائده الوطنية التي تدعو إلى إثارة الشعب ، ورد الطغيان ، ورفع الظلم ، فطاردته السلطات الفرنسية ففر إلى لبنان وتخفّى بقرية المروج بمساعدة الشاعر أديب مظهر،ولما علِمَت بوجوده هناك غادر إلى الإسكندرية عام 1926 وأقام عند صهره الدكتور أحمد قدري ، وبعد أربعة أشهر غادر الإسكندرية إلى لندن لدراسة اللغة الإنكليزية وآدابها ، فمكث فيها ثلاث سنوات حصل في نهايتها على شهادة عُليا تعادل الدكتوراه . وفي عام 1929 عاد إلى دمشق مٌشتاقاً لها ولغوطتها الغنّاء .
حين استقرّ به المقام في دمشق عُيِّنَ مساعداً لرئيس الأدب العربي في " الكلية العلمية الوطنية " وبقي فيها تسع سنوات ( 1929 ـ 1938 ) ألّف خلالها سلسلة " أئمّة الأدب العربي " نشر منها خمسة أجزاء هي : الجاحظ ، ابن المقفّع ، ابن العميد ، الصاحب بن عباد , الفرزدق .
في عام 1933 أصدر مع الدكاترة جميل صليبا وكامل عياد وكاظم الداغستاني مجلة : "الثقافــة" فعاشت سنة واحدة . وفي عام 1941 انتخبَ أمين سر عام للمجمع العلمي العربي فعمل مع رئيسه محمد كرد علي بمنتهى الإخلاص والانسجام والصفاء ، وفي عام 1942 عُيِّنَ وزيراً للمعارف والشؤون الاجتماعية لكنه لم يلبث أن عاد إلى الأدب والبحث في كتب التراث العربي فأنجز :
ديوان ابن عنين عام 1946 وديوان علي بن الهجم عام 1949 وديوان ابن حيوس عام 1951 وديوان ابن الخيّاط عام 1958 ووضع لكل ديوان مقدّمة في حوالي خمسين صفحة .
بعد أن عمّت شهرته العالم العربي وأوروبا ، تهافتت عليه المجامع اللغوية تطلب منه قبول عضويتها ، فانتخبه مجمع اللغة العربية بمصر عضواً عام 1948 ، والمجمع العلمي العراقي عضواً عام 1949 ، ودائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين عضواً في تحريرها عام 1951 ، ومدرسة الدراسات الشرقية بلندن عضواً عام 1951 ومجمع البحر المتوسط في مدينة "باليرمو Palermo " بإيطاليا عضواً عام 1952 ، والمجمع العلمي السوفياتي عضواً عام 1958 .
في عام 1951 عُيِّنَ وزيراً مفوّضاً في السفارة السورية ببغداد ، فتحوّلت السفارة خلال السنوات الثلاث التي قضاها هناك إلى منتدى أدبي للطبقة العالية من رجال الفكر والسياسة والأدب ، بعدها استدعته الحكومة السورية عام 1953 ليتسلّم وزارة الخارجية ، وانتخب عام 1953 رئيساً للمجمع العلمي العربي بدمشق بعد وفاة مؤسسه محمد كرد علي .
بلغ خليل مردم بك أعلى ما يطمح به عالم وأديب ، ثم اعتزل السياسة والناس والاجتماعات إلاّ ما دعت الضرورة القصوى إليه حتى أنس بهذه الوحدة واطمأنّ إليها ليتفرّغ إلى الأدب حيث اقتصر في أواخر حياته على التنقّل بين المجمع العلمي وداره القريبة منه مختاراً الطريق الأقصر والبعيد عن الزحام .
لكن القدر كان له بالمرصاد فاعتلّت صحته وحدّت من نشاطه إثرَ مرض لازمه شهوراً إلى أن توفي يوم الثلاثاء في 21 تموز 1959 ، ودُفِنَ في مقبرة ( الباب الصغير ) بدمشق .
كان لنشأة خليل وحياته مع عائلته الميسورة مادياً والعزلة التي رغبها سبباً في تهيئة تقافته الذاتية ، وكان طبيعياً أن يستمدّ من الأدب العربي القديم ـ نثره وشعره ـ نسغ شاعريته ، وعناصر طريقته الشعرية ، فهو كما يقول الدكتور إبراهيم الكيلاني :" لم يتأثر بأي ثقافة أو فكر أجنبيين ، ولم يذهب إلى لندن للدراسة إلا بعد أن تحدّدت شخصيّته نهائياً ، ولم يقرأ نتاج الفكر الأوروبي ، وكان بحكم محافظته لا يحب الأجانب ، ولا يعجب بثقافتهم أو لغاتهم أو آدابهم ، وهو مثال واضح للأديب العربي المحافظ التقليدي" . تأثر خليل وأُعْجِبَ بالبحتري إلى حد بعيد لأنه زعيم الطريقة الشامية التي تقوم على الوصف أوّلاً ، ولأن أسلوبه يقوم على العناية بالموسيقا والديباجة وأحكام الصنعة والاهتمام باللفظ دون الغوص في المعاني المُبتكَرة والأفكار المُختَرعَة ثانياً ، وقد سألة الشاعر حافظ إبراهيم :" مَن تُفَضّل من الشعراء : أبا تمّام أم البحتري أم المتنبي ؟ فأجاب دون تردّد : البحتري ". فكان في نظره مقياساً للجودة فسلك سبيله وتأثّر في خطاه . لم يكن شاعراً صخّاباً ولا قائد جماهير فإن قارئ شعره يجد كيف تدرّج هذا الإنسان الهادئ من موضوعات المناسبات التي عجّت في صدره إبان صباه وإقباله على الحياة إلى شعر أوسع آفاقاً ، يجمع الفلسفي والاجتماعي والسياسي والقومي . كان شاعراً مُرهَفاً وطنياً مُخلِصاً لعروبته وأديباً تعمّق في دراسة تاريخ أدبنا العربي وبحاثة حقّق ونشر جملة من المخطوطات النفيسة ، وإدارياً برزت مواهبه في السفارة والوزارة ، وكاتباً فحلاً لم يرعف قلمه إلاّ لغير العربية والعروبة . فكانت شخصيّته تتميّز : بهدوء الطبع وسماحة النفس وصلابة الإرادة وقوة الإصرار .
وتكريماً لأعماله الأدبية والوطنية فقد أقامت له وزارة الثقافة والإرشاد القومي يوم الخميس في 10 آذار 1960 حفلة تأبين على مدرّج جامعة دمشق شارك فيها أدباء وشعراء من سورية والوطن العربي مع أسرة الفقيد (4) ألقوا فيها كلمات وقصائد ، ذكروا فيها ما يستحق هذا الأديب والشاعر والوطني كل تقدير وإجلال . وهو الذي نظم كلمات النشيد الوطني لسورية .
مــؤلّفاتــه :
ـ ديوان خليل مردم بك : طبع عام 1960 بعد وفاته .
ـ شعراء الشام في القرن الثالث الهجري( العتابي ، ديك الجن الحمصي ، أبو تمام ،البحتري)
ـ شعراء الإعراب : وقد ضم أربعين شاعراً من شيوخ العربية ورواد فقه اللغة منــهم :
النابغة الشيباني ، مالك بن الريب ، بيهس الجرمي ، أبو نخيلة ، جرير ، مزاحم العقيلي ،
ميسون بنت بحدل الكلبية زوجة معاوية وأم يزيد .
ـ الشعراء الشاميون : ضم هذا الكتاب سبعة من شعراء الشام الذين عاشوا في عصـــور
مختلفة : الطرماح بن عدي ، ابن حيوس ، ابن الخياط ، ابن عنين ، عبد الملك بن عبد
الرحيم الحارثي ، الوليد بن يزيد ، عدي بن الرقاع .
ـ سلسلة أئمة الأدب العربي : صدر منها : الجاحظ ، إبن المقفّع ، إبن العميد ، الصاحب ،
الفرزدق .
ـ دمشق والقدس في العشرينات : ضم مجموعة من المقالات التي نشرها الصحف والمجلات
في عشرينات القرن الماضي .
ـ الشاعر أبو نواس .
ـ الشاعر ابن الرومي .
ـ يوميات الخليل
ـ رسائل الخليل الدبلوماسية .
ـ محاضرات الخليل في الإنشاء العربي .
ـ جمهرة المغنين .
ـ الإعرابيات .
ـ مجلة الرابطة الأدبية 1921
ـ مجلة الثقافة 1933
مقتطفات من أعمـاله :
1 ـ تعبيراً لوطنيته وعروبته فقد نظم كلمات النشيد الوطني لسورية ولحّنه : محمد فليفل :
حُمــاة الديــارِ عليكم سلام أبت أن تذِلَّ النفــوسُ الكرام
عرين العـــروبة بيتٌ حَرام وعرش الشموسِ حِمىً لا يُضام
ربوع الشـــآمِ بروجُ العُـلا تُحاكي السماءَ بعـــالي السَّنا
فأرضٌ زهتْ بالشّموسِ الوِضا سماءٌ لَعَمْـــرِكَ أو كالسَـما
رفيفُ الأماني وخَفقُ الفــؤادْ على علَمٍٍ ضـمَّ شَمْلَ البــلادْ
أما فيهٍ منْ كُلِّ عينٍ ســـوادْ ومن دمِ كُلِّ شَــهيدٍ مِــداد ؟
نفــوسٌ أُباةٌ وماضٍ مجيــدْ وروحُ الأضاحي رقيـبٌ عَتيـدْ
فمِنّـَا الوليـدُ ومِنّـَا الرَّشيـدْ فلـِمَ لا نَسـودُ ولِـمَ لا نُشيدْ ؟
2 ـ لما عاد إلى دمشق مُشتاقاً لها ولغوطتها قال :
تلاقوا بعد ما افترقوا طويلاً فما ملكوا المدامع أن تسيلا
بقيــة فتنة لم تبـقِ منهم صروف زمانهم إلاّ قليـلا
دمشق ولست بالباغي بديلا وعن عهد الأحبة لن أحولا
ذكرتك واللهيب له وميض ينشر من شائقـه ذيــولا
3 ـ لم يترك نازلة بالأمة والأرض العربية ألاّ وجدت أصداءها في حنايا قلبه فقال
في معركة ميسلون :
مصيبة ميسلون وإن أمضّت أخف وقيعة مما تـلاها
فما من بقعة من دمشـق إلاّ تمثل ميسلون وما دهاها
فسـل عما تصبب من دماء تخبرك الحقيقة غوطتاها
ولم أر جنــة أمسى بنوها وقود النار فائرة سـواها
عبدناها نعيمـاً أو جحيمـاً وألهمت النفوس بها هداها
4 ـ ويلوي على فلسطين فيقول :
ياليت شعري ماذا يستفــزّكم حمى مبـاح واذلال وافقــار
أرى الحجارة أحمى من أنوفكم كم ارسلت شرراً بالقدح أحجار
إخوانكم في فلسطين تنــالهم بالسوء والعسف أنياب وأظفـار
5 ـ كان دقيق الملاحظة في تصوير الطبيعة ومخلوقاتها كما في قصيدته ( الفراشتان ):
تسـرّ الناظرين فراشتـان بـروض ناعــم تتغــازلان
تبرّجتــا بنفض من سواد على أعطـاف حلة أرجــوان
تحيــّرتا هنا وهناك طيشاً كما في الريح حارت ريشتـان
وضمت من جناحيها فكانت كعرف الديك أو حرف السنـان
ودومتا صعوداً أو هبـوطاً كأنــهما هنـالك معــزلان
فما يرتدّ طـرف العين إلاّ دراكاً تعــلوان وتهـــويان
6 ـ وبعد أن انطوى على نفسه وتراءت له الدنيا على حقيقتها فرآها دار همٍّ وفجائع
وأحزان فقال :
ولم أر كالدنيا ولا مثل شأنـها على كل حال دار هم وأحزان
فجعت بنفسي إن تراءت منيّتي وإن مدّ بعمري فجعت بخلاّني
15/10/2010 المهندس جورج فارس رباحية
المفــردات :
(1) ـ مصطفى لالا باشا : كان وزيراً ومربياً لأولاد السلطان ثمّ والياًَ على دمشق 1563 ـ 1569 وهو صاحب جامع مصطفى لالا باشا الأثري المشهور بدمشق
ومما يُنسَب لهذه العائلة من معالم دمشق الأثرية ( خان مردم يك ) الذي كان قائماً
في العهد العثماني و(خان مصطفى لالا باشا) الذي كان قائماً في سوق الهال القديم
ثم هُدِمَ عام 1928 . وهو فاتح قبرص .
(2) ـ أدباء الرابطة الأدبية : خليل مردم بك ، محمد الشريقي ، سليم الجندي ، قبلان
الرياشي ، الشمّاس أبيفانيوس زائد ، عبد الله النجار ، نسيب شهاب ، مـاري
عجمي ، نجيب الريس ، سيمون لويس ، ميشيل سعد ، فيليب سعد ، إبراهيم
حلمي ، حبيب كحالة وغيرهـــم .
(3) ـ أدباء الرابطة القلمية في نيويورك : نسيب عريضة ، جبران خليل جبران ،
ميخائيل نعيمة ، ندرة حداد ، عبد المسيح حداد ، رشيد أيوب ، إيليا أبو ماضي
أمين الريحاني ، وليم كاتسفيلد .
(4) ـ الأدباء الذين شاركوا في حفلة التأبين :
1 ـ الدكتور إبراهيم الكيلاني : مدير التأليف والترجمة في وزارة الثقافة
2 ـ الأمير مصطفى الشهابي : رئيس المجمع العلمي العربي
3 ـ الدكتور حكمة هاشم : مدير جامعة دمشق
4 ـ الشيخ محمد بهجة الأثري : عضو المجمع العلمي العراقي
5 ـ محمد الشريقي : سفير المملكة الأردنية الهاشمية بالقاهرة
6 ـ محمود تيمور : عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة
7 ـ الدكتور جميل صليبا : عميد كلية التربية بجامعة دمشق
8 ـ الشاعر القروي ( رشيد سليم الخوري )
9 ـ نجله عدنان مردم بك : عن أسرة الفقيد
المصـــادر والمراجــــع :
ـ وزارة الثقافة والإرشاد القومي : كتيّب حفل تكريم خليل مردم بك 1960
ـ مجلة الموقف الأدبي العدد 261 سنة 1993
ـ المعرفة : الموسوعة الحرة لخلق وجمع المحتوى العربي
ـ هؤلاء حكموا سورية : د سليمان المدني 1996
ـ شعراء سورية : أحمد الجندي 1965
ـ مواقع على الإنترنت :