القديس سمعان العمودي
و
تاريخ الكنيسة والدير والقلعة
المهندس جورج فارس رباحية
وُلِدَ سمعان حوالي عام 389 م(1) في بلدة سيس ( سيسان ) القريبة من نيقوبوليس ( قرب أضنة بتركيا) وقد أخذ عن والديه ( الأب يوحنا والأم مرتا ) الميسورين مهنة رعي المواشي وهو فتى صغير . وفي يوم مُثلِج وشديد البرودة لم يستطع إخراج قطيعه من الحظيرة فذهب مع والديه إلى الكنيسة حيث استمع إلى الكاهن يردّد الطوباويات التي قالها السيد المسيح في عِظة الجبل : ( طوبى للودعاء . لأنهم يرثون الأرض .......... ) . ( متّى 5 : 3 ـ 11 )
تأثر الفتى سمعان ـ الذي لم يكن قد بلغ من العمر سن الخامسة عشرة ـ بكلمات السيد المسيح . ( وقد ذُكِر َأنه أسرع إلى الكنيسة وتوسّل بحرارة إلى الرب أن يُرشده إلى طريق التقوى وبقي في هذه الحالة وقتاً طويلاً فأخذه النعاس إلى أن غفا . وفي غفوته عاين الرؤية التالية : بدا له كأنه يحفر أساسات لبناء وإذا بصوت يقول : " هذا ليس كافياً عمّق الحفرة أكثر .... " فاستمرّ وعاد إليه الصوت أربع مرّات بنفس الكلمات إلى أن قال له أخيراً : كفاك الآن هيّا باشر بالبناء وسيكون الأمر سهلاً . ) وأدرك سمعان أنها دعوة له من عند الرب ليجاهد في حياة القداسة ، فتألقت نفْسه إلى الصفاء الروحي والميل إلى الحياة النسكية فانضمّ إلى جماعة من النُسَّاك ، قرب سيس فبقي معهم مدة سنتين . ثم انتقل إلى منطقة : تل عادة حيث استقرّ في دير برج السبع الذي يقع غرب تل عادة وغرب مدينة حلب بحوالي 60 كم . حيث كان يٌقيم في الدير حوالي ثمانين راهباً الذي كان يرأسه إيليذوروس الذي تتلمذ على يده في أصول الحياة النسكية . كان يقضي وقته في الصلاة والتقشّف ، ويتناول الطعام مرة واحدة في الأسبوع ، وشدَّ مَرّة حبلاً خشناً على جسده للإمعان في التقشّف ، فأدّى هذا إلى نزف دمه ولم يقبل بمعالجة الجرح فطُلب منه مغادرة الدير كي لا يجاريه بهذا العمل من الرهبان ضعاف البنية . فغادر الدير بعد أن أمضى فيه عشر سنوات .
في عام 412 م لجأ سمعان إلى دير تلانيسوس ( ( قرية دير سمعان حالياً ) فعاش في هذه البلدة مدة ثلاث سنوات حيث واصل سمعان جهاده فكان يصوم أيام عدّة يبقى فيها واقفاً مسبّحاً الله ، وأقام في صومعة وصام الصوم الأربعيني منتصباً على قمة العمود ليلاً ونهاراً دون طعام أو شراب رغم وجود عشرة أرغفة من الخبز وجرّة ماء قربه . وأصبح صوم الأربعين عادة لديه رافقته حتى آخر حياته على العمود .
غادر سمعان الدير وارتقى قمة الجبل المعروف اليوم باسمه (جبل سمعان الذي يرتفع 886 م
عن سطح البحر ويقع شمال غرب حلب بحدود 60 كم ) .
ذاعت طريقة حياته والعجائب التي كان يصنعها الله على يديه ، فأقبل الناس عليه بكثرة ، منهم المرضى لينعموا بالشفاء ، ومنهم العواقر لرزقهن الله أولاداً وغيرهم ليمدّهم بالنصح والإرشاد لحل مشاكلهم المستعصية .
وكان الزوار يقصدونه من كل حدب وصوب على مختلف جنسياتهم من الفرس والأرمن والعرب ومن الدول الأوروبية مثل اسبانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا....كما ساهمت العلاقات التجارية بين أنطاكية والعالم الروماني في ازدياد شهرته حيث توجد له لوحه على صفيحة من الفضة في متحف اللوفر بباريس كما يُذكَر أنه كان يُرسِل تحياته إلى القديسة جنفياف شفيعة باريس مع التجار الذين كانوا يزورونه . كما كانت صورته معروضة في إحدى قاعات الفنانين في روما . وبغية تجنّب مضايقة الزوار العديدين انتصب سمعان على عمود حجري أقيم له بارتفاع ذراعين حسب النص السرياني وبارتفاع ستة أذرع حسب رأي أسقف قورش(3) تيودوريتس ( وُلِدَ عام393م وتوفي بين 458 ـ 466م) . وأخذ العمود يزداد ارتفاعاً ، بازدياد أعداد الجموع التي كانت تقصده حتى وصل إلى ارتفاع 36 ذراعاً حسب قول أسقف قورش .و40 ذراعاً حسب النص السرياني . امضى القديس سمعان على هذا العمود 36 عاماً حسب رأي الأسقف و42 عاماً حسب النص السرياني لم تطأ قدماه الأرض معتزلاً في عُلِّيته المثبّتة في رأس العمود متعرّضاً لعوامل الطبيعة من حرّ وقَرّ ورياح وأمطار وزوابع . ونظراً لأهمية العمود في حياة القديس سمعان ، فلا بد من وصفه بالتفصيل :
كان قطر العمود 110 سم وذكرنا ارتفاعه في الفقرة السابقة وكان في أعلى العمود ألواحاً خشبية تستند عليه ، ولها جوانب ( كالدرابزون أو كالتصوينة ) وهي بأبعاد إما مربّع طول ضلعه 2م أو بشكل مسدس أو دائري بحيث تشكّل شُرْفة ـ تشبه شرفة المئذنة ـ مساحتها حوالي 4م2 . يُقيم فيها الناسك العمودي وتمكّنه من الوقوف والسجود والنوم ، وتُثبّت بجسم العمود من الأعلى بواسطة زوايا وبمسامير معدنية . وكان من مستلزمات العمود وجود السلّم لتوصيل الطعام إليه وللصعود إلى مسكن الناسك وحيث أنه من العار على العمودي أن ينزل من عموده قبل وفاته ، فكان لابد من تأمين الناحية الصحية ، إذ كان هناك ( دورة مياه ) علوية ترتبط عن طريق أنبوب من الفخار يصل إلى حفرة فنيّة ( جورة ) قريبة من قاعدة العمود . كما كان هناك غطاء لهذا المسكن من سعف النخيل لحماية القديس سمعان من حرارة الشمس والمطر ، وقد أزاله في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته . والجدير بالذكر إنه كان لكل ناسك تلميذ أو أكثر ( راهب مبتدئ أو شماس ) يقوم على خدمته ويؤمن له الطعام القليل ويُبعِد عنه ازدحام الزوّار ويحمي العمود من أي أذى أو تكسير .
انتابت القديس سمعان حمّى قوية لازمته أربعة أيام وفي الساعة التاسعة من نهار يوم الأربعاء في 2/ إيلول/ عام 459 م (2) وبعد أن منح سمعان برَكتَه للجموع رفع عينيه ثلاث مرّات نحو السماء ثم أسند رأسه إلى كتفي تلميذيه أنطونيوس وسرجيوس اللذان صعدا إليه حتى رأس العمود وأسلم الروح .
كان قد أوصى لرفاقه أن ينتقل من قبر إلى آخر ثلاث مرّات . فدفن أوّلاً على بُعْد خطوات من المكان الذي عاش فيه ، بعدها نُقِلَ إلى كنيسة قسطنطين في أنطاكيا وبتاريخ 1 إيلول عام 471 نُقِلَ رُفاته للمرة الثالثة إلى المدفن الذي بُني بين 471و474م من قيل الإمبراطور ليون بوساطة القديس( دانيال العمودي ) الذي كان على علاقة طيبة مع الامبراطور وذلك على الضفة الغربية من البوسفور قرب القسطنطينية وبجانب مكان عمود دانيال .
تُعَيَِد له الكنائس في 1 إيلول من كل عام وهو التاريخ الذي نُقِلَ فيه رُفاته إلى القسطنطينية.
كان القديس سمعان صاحب رسالة وخطيباً ، يعظ مرتين في اليوم ويُعطي نصائحه على قاصديه ويحل خلافات المتخاصمين ويُرشِد الوثنيين منهم إلى الدين المسيحي . ومن عجائبه التي ذكرها تيودوريتس أسقف قورش ، شفاء أحد الأمراء القادمين إليه من الرقة وكان مصاباً بالفالج ، كما استجاب دعاء إحدى أمهات الإسماعيليين فأصبحت أماً بعد أن كانت عاقراً . وكان أهل فارس يدعونه ( الرجل الإلهي ) وكانت قوة احتماله عجائبية ( أثناء صلاته ) في الوقوف والسجود فوق عموده ، فقد عَدَّ أحد مرافقي الأسقف تيودوريتس / 1244 / سجدة ثم ضجر وتوقّف عن العَدّ . وكان في سجوده ينحني فتصل جبهته حتى أصابع رجليه . ذلك لأن معدته التي لا يصل إليها الطعام إلاّ مرة واحدة في الأسبوع وبكمية ضئيلة كانت تمكّنه من إحناء ظهره . كما كان يبقى بعد غياب الشمس وحتى شروقها واقفاً الليل كله رافعاً يديه نحو السماء دون نعاس أو تعب . فكان يُسَمّى ( رائد النُسَّاك العموديين ) .
كنيسة القديس سمعان
كانت أواصر الصداقة والمودة قوية بين الإمبراطور زينون Zenon ( 474 ـ 491 ) م والعمودي دانيال وهذه دفعت بالإمبراطور عام 476 م إلى البدء بتشييد كنيسة للقديس سمعان العمودي حيث تم الانتهاء من بنائها عام 490 أو 491 م .
أقيمت الكنيسة حول العمود الذي قضى عليه القديس معظم حياته وكانت على شكل صليب مؤلف من أربعة أجنحة متعامدة فيما بينها وقد ارتبطت الأجنحة مع بعضها حول العمود بواسطة شكل مثمّن قطره 28 م . حيث كان كل جناح بحد ذاته عبارة عن كنيسة ذات بهو رئيسي وبهوين جانبيين يفصل بينهما صفان من الأعمدة والأقواس البديعة والعالية .
وقد أقيم في الجنوب الشرقي من الكنيسة ، كنيسة صغيرة للرهبان ولتأدية الفروض والصلوات اليومية ، كما أقيم في جنوبها دير الرهبان بطبقتين . وقد بلغت مساحة الكنيسة :
5000 م2 وملحقاتها 2000 م2 وكان طول الكنيسة من الشرق إلى الغرب مع المثمّن 100 م
ومن الشمال إلى الجنوب 88 م وعرض كل جناح 24 م . وإن عدد أبواب الكنيسة المصلّبة 27 باباً . تعرضت البلاد لهزات أرضية شديدة في العامين 526 و 528 سببت أضراراً كبيرة في الكنيسة وخاصة في المثمّن . تعتبر كنيسة القديس سمعان جوهرة كنائس المدن المنسية (4) ومن أضخم الكنائس التي بنيت في العالم .
دير القديس سمعان
يشكل الدير الملحق بالكنيسة مع الجناح الشرقي والجنوبي باحة مستطيلة ويتألف من بناء ذي طبقة أرضية وطبقتين علويتين فوقها ، الطبقة الأرضية تستخدم لإيواء الحيوانات والمواشي. ويضم الدير أيضاً كنيسة للرهبان ومكان إقامتهم كما ذكر أعلاه ، بالإضافة إلى مقبرة للرهبان وكنيسة للمعمودية . تبلغ مساحة الدير 5000 م2 وبذلك تكون مساحة الكنيسـة مع الديــر
12000 م2 .
قلعـة سمعان
ترشدنا الكتابات السريانية واليونانية المسجلتان في عام 979 م إلى إن الدير والكنيسة لا يزالان وقد جرى ترميمهما في عام 979 م . ويخبرنا التاريخ أن القائد البيــزنطي ( نقفور
فوقاس ) انتصر على الحمدانيين في حلب سنة 969/970 . وربما فكّر بتحصين الدير أو جزء منه نظراً لموقعه الهام والاستراتيجي . ويذكر يحيى بن سعيد الأنطاكي ، أن دير سمعان كان كثير الرهبان ومزدهراً في زمن بطريرك أنطاكية ( خريستوفوروس ) الذي لجأ إلى الدير عام 965 م إثر عصيان جرى في أنطاكية ضد سيف الدولة الذي كان صديقاً للبطريرك . إن جيش سعد الدولة بن سيف الدولة الحمداني قد احتل الدير عام 985 م .
عندما حوّل الدير إلى قلعة بُني السور مع 13 برجاً حول هضبة الجبل بكاملها وكان ذلك في القرن العاشر الميلادي مما جعل تسمية ( قلعة سمعان ) تُطلق على كنيسة القديس سمعان العمودي . ولازالت بعض الأبراج بادية في السور الشمالي قرب مقبرة الرهبان وفي القسم الجنوبي الشرقي من السور .
الاحتفال بمرور 1500 عام
على إنشاء كنيسة القديس سمعان العمودي
( 491 ـ 1991 )
تم القيام باحتفال مهيب بحج مسكوني إلى كنيسة القديس سمعان العمودي يوم السبت بتاريخ 7 إيلول سنة 1991 شارك فيه حوالي 5000 مواطن من جميع الطوائف المسيحية وتلوا معاً الصلاة الربانية مع التراتيل الجميلة بمختلف اللغات : العربية والسريانية والأرمنية واليونانية .
3/4/2009 المهندس جورج فارس رباحية
المفــردات :
(1) ـ 1ـ إن مصادر : موقع مطرانية حلب للروم الأرثوذكس و موقع ويكيبيديا الموسوعة
الحرة و المنجد في اللغة والأعلام . قد ذكروا أن القديس ســمعان العمودي قد
قد وُلِدَ سنة 389 م .
2ـ إن كتاب " كنيسة القديس سمعان العمودي للمهندس عبدالله حجار 2009 قد حدّد
ولادته سنة 386 م .
3 ـ إن مجلة النعمة 1961 التي تصدر عن بطريركية الروم الأرثوذكس بدمشــق
حدّدت تاريخ ولادته سنة 391 م .
4 ـ وفي كتاب السواعي الكبير الصادر بالقدس عام 1886 قد ذكر إن ولادته كانت
سنة 392 م .
(2) ـ 1 ـ إن موقع مطرانية الروم الأرثوذكس بحلب قد حدّد وفاته في 2/ 9 /459 م .
2 ـ وكتاب المهندس عبدالله حجار ذكر أنه توفي في 24 / 7 / 459 م .
3 ـ وفي كتاب السواعي الكبير ، حدّد وفاته سنة 461 دون تحديد اليوم والشهر .
(3) ـ قورُش : أو خورس قديماً : موضع في سورية شمال اعزاز قرب الحدود التركية.
(4) ـ ويسمّيها البعض " المدن الميّتة " التي يزيد عددها عن 700 قرية ومدينة قديمـة
وقد بُنِيَت هذه القرى والمدن في القرون الميلادية الأولى حتى القرن الســابع ،
وهجرها سكانها المسيحيون السوريون الأصليون لأسباب متعــدّدة وما أن أطلّ
القرن العاشر حتى كان معظمها قد هُجِرْ . تتوزّع هذه القرى بين محافظتي حلب
وإدلب في شمال سورية بمواقع ( جبل سمعان ـ جبل حَلَقَة ـ جبل الزاوية ـ
جبل أريحا . وتغطي هذه القرى مساحة تقدر بـ 5000 كم2 أي ما تعادل نصف
لبنان وتمتد على مسافة 140 كم باتجاه شمال ـ جنوب وبعرض يــتراوح بين
20 ـ 40 كم . من هذه المدن : قلب لوزة ـ الدانا ـ كفر البارة ـ باقرحا ...
المصــادر والمــراجع :
ـ كتاب السواعي الكبير : القدس 1886
ـ مجلة النعمة 1961 : تصدر عن بطريركة الروم الأرثوذكس بدمشق
ـ المنجد في اللغة والأعلام : بيروت 1973
ـ نشرة لجمعية العاديات بحمص للمهندس ملاتيوس جغنون 2003
ـ كتاب " كنيسة القديس سمعان العمودي " : المهندس عبدالله حجار 2009
ـ مواقع على الإنترنت : ـ مطرانية حلب للروم الأرثوذكس
ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
ـ المحبة الأرثوذكسية