شهداء من حمص
رَفيق رِزْق سَلّوم
1891 ـ 1916
المهندس جورج فارس رباحية
في يوم مشرق من أيام شهر آذار سنة 1891 تعالت الزغاريد في منزل موسى رزق سلوم بحمص تبشر بولادة طفل ذكر أسماه والده : رفيق .
نما رفيق بين أحضان والديه بالحنان والمحبة وما أن بلغ الخامسة من العمر ، أدخله والداه المدرسة الروسية التابعة للجمعية الإمبراطورية الفلسطينية بحمص واكتشف معّلموه ذكاءه البارع وسهولة استيعابه للدروس ، ولما رأى مطران حمص أثناسيوس عطا الله ( 1853 ـ 1923 ) نبوغه وعبقريّته أرسله إلى المدرسة الإكليريكية في دير البلمند بلبنان عام 1904 ولبس ثوب الرهبنة وكان في الثالثة عشر من عمره حيث بقي أربع سنوات حتى عام 1907 تلقى خلالها آداب اللغة العربية وعلوم اللاّهوت .وزاول التدريس في مدارسها مدة سنة واحدة
غير أن السنوات الأربع التي قضاها في جو رهباني تنسّكي أثرت في نفسيّته ، فمال إلى العزلة والتزهّد فارتدى ثوب الرهبنة وانتقل من منزل أهله إلى دار مطرانية الروم الأرثوذكس تحت رعاية المطران أثناسيوس عطا الله . إلاّ أنه لم يمكث في المطرانية سوى سنة واحدة كان خلالها يتعلّم اللغة التركية على يد الأستاذ خالد الحكيم الذي شجّعه على متابعة دراسته فعدَلَ عن الترهّب . وفي مطلع عام 1909التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وهو في السابعة عشر من العمر حيث درس اللغة الإنكليزية ووضع أوّل مؤلفاته وهو : رواية (أمراض العصر الجديد ) وكانت كلمة الإهداء إلى الحرية وضد الظلم والاستبداد والاستعباد .
عاد إلى حمص في صيف 1909 فعرّفه أستاذه خالد الحكيم على الشيخ عبد الحميد الزهراوي ، ومنذ ذلك الحين أخذت القضية الوطنية تُشغِل تفكيره . وبناء على مشورة الزهراوي سافر إلى الأستانة ( استنبول ) في نهاية صيف 1909 لدراسة الحقوق وكان في أوقات فراغه يكتب المقالات الرائعة وينشرها في الصحف والمجلات : ( المقتطف ـ المهذب ـ المفيد ـ حمص ـ لسان العرب ) بالإضافة إلى تحريره في جريدة ( الحضارة ) لصاحبها الشهيد الزهراوي التي كانت تصدر في الأستانة باللغة العربية . كما كان من أعضاء ( الجمعية الثورية القحطانية ) التي أسّسها في القاهرة حقي العظم سنة 1913 ومن أعضائها : الخوري عيسى أسعد ، عبد الحميد الزهراوي ، عزة الجندي ، عمر الأتاسي. وخلال فترة إقامته بالأستانة التي امتدّت إلى عام 1914 . ألّفَ كتابه الشهير في الاقتصاد : (حياة البلاد في علم الاقتصاد ) وكان أول كتاب بالعربية يتطرّق إلى هذا العلم . ونشر بعض فصوله في جريدة الحضارة قبل طباعته في حمص عام 1912 وقد دُرِّس هذا الكتاب فترة طويلة في المدارس الأرثوذكسية بحمص ومدرسة السلمية الزراعية وعدة مدارس أخرى . وأهداه إلى رفيقه في الاستشهاد الشيخ عبد الحميد الزهراوي حيث جاء في الإهداء :
(( أقدّم لكم هذا الكتاب لأنه مربوط الأصل بكم فلم يفض ماؤه إلاّ بتشجيعكم وحضّكم ثم فتحتم له طريقاً في جريدتكم الغراء فاستقى منه قسم من أبناء الأمة الكرام والآن أضمُ تلك الجرعات الصغيرة في هذا الكتاب الصغير لأديرها على أبناء وطني الغيورين . فاقبلوا فائق احترامي وشكري نفع الله الأمة والوطن بفضلكم وعلمكم واصلاحكم ـ رفيق ))
كما ألّف كتاب ( حقوق الدول ) الذي نشره على حلقات في جريدة ( المهذب ) التي كانت تصدر في زحلة ويقع هذا الكتاب في حوالي 800 صفحة ولكنه لم يُنشَر وبقي في حوزة أهله . وله أيضاً قصائد شعرية رائعة كتب معظمها في الأغراض الوطنية . كما كان مولعاً بالموسيقى فأتقن العزف على القانون والعود والكمان والبيانو . كان رفيق يُتقِن اللغات : الروسية واليونانية والفرنسية والتركية والانكليزية إضافة إلى العربية .
وخلال وجود رفيق بالأستانة تسلّم منصب نائب رئيس النادي الأدبي الذي ضم مجموعة من من النواب والمفكرين والطلاب العرب فكان ملتقى الزوّار والعرب الذين يُقيمون في الأستانة وكان يرمي إلى ائتلافهم وحماية حقوقهم والمطالبة باستقلالهم وإيقاظ الأمة العربية التي كانت تغط في سبات عميق جراء الاستعباد العثماني .
حينما نال رفيق شهادة الحقوق كانت الدولة العثمانية قد اشتركت في الحرب العالمية الأولى فطلب للخدمة الإجبارية في الجيش برتبة ضابط .
ولما كان رفيق رزق سلوم من الأشخاص الذين كانوا يعملون في سبيل حرية بلادهم واستقلالها عن الدولة العثمانية ، ففي أواسط شهر آب 1915 فقد ألقي القبض على عدد من المناضلين بأمر من السفّاح جمال باشا منهم الشيخ عبد الحميد الزهراوي وفي يوم الإثنين بتاريخ 27 إيلول 1915 ألقي القبض في دمشق على الضابط والمحامي رفيق رزق سلوم وتمت إحالة المعتقلين إلى الديوان العرفي الذي شكّله في بلدة ( عاليه ) .و تعرّضوا خلال الاعتقال للإهانة والتعذيب . وبعد محاكمة صورية حكم عليهم بالإعدام شنقاً حتى الموت بتهمة خيانة الدولة العليا وفي يوم السبت في 6 أيار 1916 نفّذ حكم الإعدام في ساحة المرجة بدمشق بكل من :
ـ رفيق رزق سلوم من حمص
ـ الشيخ عبد الحميد الزهراوي من حمص
ـ شفيق بك مؤيد العظم من دمشق
ـ شكري بك العسلي من دمشق
ـ عبد الوهاب الإنكليزي من دمشق
ـ رشدي الشمعة من دمشق
ـ الأمير عمر الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري من دمشق
والجدير بالذكر أن رفيق كتب إلى أهله رسالة يوم الأربعاء في 5 نيسان 1916 (المصادف في 23 آذار شرقي سنة 1916) من سجنه في عاليه بعد صدور حكم الإعدام بحقه شرح فيها كيف تم القبض عليه وما قاساه في السجن من عذاب ويطلب فيها من أهله ألاّ يحزنوا لموته لأنه يكره الحزن والحزانى وجاء فيها : ثقوا بأن روحي ترفرف دائماً فوقكم فأرى كل حركة من حركاتكم ولا ترونني فإذا حزنتم أهرب من عندكم وإياكم أن تُغيّروا ثيابكم أو عادة من عاداتكم . وإنني أحمد الله لأنني عشت شريفاً وأموت شريفاً أما الجواسيس الذين تكلّموا عني فإنني أسامحهم لأن الطبيعة أوجدتهم ضعفاء . وأضاف في رسالته :
اكتبوا على قبري هذه الأبيات :
وإن الـذي بيني وبيــن أبــي وبين بني عمي لمختــلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومــهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا عيني حفظت عيونـهم وإن هووا عني هويت لهم رشـدا
وإن زجروا طيـراً بنحس تمر بي زجرت لهم طيراً تمر بهم سـعدا
وفي يوم تنفيذ الحكم قال شاهد عيا ن على إعدام رفيق رزق سلوم وهو الجنرال ( علي فؤاد أردن ) رئيس أركان الجيش الرابع :
(( سار إلى المشنقة بخطوات ثابتة سريعة ، فما أن تلقاه المأمور الذي تولّى شنقه حتى رمى طربوشه إلى الأرض ، فصاح به غاضباً ردّوا الطربوش ، لا يحق لكم أن ترموه إلى الأرض ، فأذعنوا لطلبه ووضعوه على رأسه .. ولم يلحظ آنئذ أن الطربوش تلطّخ بالتراب ، ثم صاح بهم نظفوا طربوشي من الغبار ... كنت أمعن النظر في هذا الشاب الذي أبدى من الشجاعة ورباطة الجأش ما يُحيّر العقول )) .
دُفِن الشهيد رفيق رزق سلّوم في المقبرة الأرثوذكسية بدمشق .
لقد جعل الشعب العربي في سوريا هذا اليوم (( يوماً رسميّاً للشهداء )) الذين ضحّوا بحياتهم في سبيل استقلال بلادهم جاعلاً من تاريخ 6 أيار من كل عام ذكرى خالدة وأمثولة رائعة لكل أمة تمجّد أبطالها وتتطلّع لنيل حريتها واستقلالها . وتكريماً له :
ـ أهدى العلاّمة الخوري عيسى أسعد كتابه ( تاريخ حمص ج1: 1940 ) إلى صديقيه رفيق
رزق سلوم وعبد الحميد الزهراوي شهداء الوطنية حيث جاء في الإهداء : (( إليكما يا من
علا كعباهـما تربة الوطن المحبوب، فسبقا باستشهادهما صديقهما إلى العالم الآخر . أقدِّم
تاريخ ما سلف من حوادث بلدكما المحبوب . ليرى السلف الصالح الأقدم ، الصورة الجميلة
للســالفين الحديثين غير المنسيين من صحيحي الوطنية ))
ـ أطلقت مديرية التربية بحمص اسمه على إحدى ثانوياتها
ـ أصدر عمّه هلال رزق سلوم عام 1961 كتيباً عن حياة الشهيد
ـ أصدرت وزارة الثقافة عام 2006 الأعمال الكاملة للشهيد
مؤلفــات الشهيد :
ـ رواية ( أمراض العصر الجديد )
ـ كتاب ( حياة البلاد في علم الاقتصاد )
ـ كتاب ( حقوق الدول )
ـ مجموعات شعرية
مقتطفات من شعره :
(1) ـ من قصيدة : صبّوا الدماء على قبري . هي آخر ما نظم من شعر ، حيث نظمـها في
في السجن وأرسلها إلى ذويه مع الكاهن الذي استمع إلى اعترافه الكنسي
قبيل إعدامه . قال فيها :
لا العرب أهلي ولا سورية داري إن لم تهبّــوا لنيل الحق والثار
إن نمتــم عن دمي لا قمتم أبداً وكان خصمكم في المحشر الباري
أنا الذي دمه في الأرض منتشـر كأنما هو نـهر في الفلا جــار
كونوا على الترك أبطالاً ضراغمة صبّوا الصواعق من جمر ومن نار
واستجلبوا لي كأساً من دمائهــم لأنني ابتغي شرب الدم الجـاري
صبّوا الدماء على قبري بلا أسف كلا ولا جـزع هطــلا كمدرار
(2) ـ من قصيدة : لا تقنطوا يا عرب . نشرت في جريدة الحضارة بتاريخ 6/4/1911
هو الحق مثل الشمس في الكون يظهر وليس يضير الشمس أرمد ينكر
سلام على الهادي الأمين محمـــد وكل رسول جاء للحق يجهـر
لئن كنت من أتبـــاع عيسى فإنني أحب جميع المرسلين وأشكـر
دعوت جميع الخلـق دعوة مصـلح وقلت لهم للحق والفضل بادروا
ولا تقنطوا يا عرب من فضل ربّكم فللــدهر حالات تمّـر وتعبر
ولا تيأسـوا من رحمــة الله إننـا الغزاة الأولى منا الرشيد وجعفر
(3) ـ من قصيدة : أيها الشرق . وُجِدَت بين مخطوطاته وقد وردت بكتاب مرسل إلى
شقيقه بتاريخ 19/9/1908 .
أيها الشرق هل ذكرت زمانا كنت فيه هام الشعوب العلية
إذ وضعت الأساس في كل فن وبنيت المعاهد العلميـــة
كم سهرنا نراقب النجوم حيناً كم بنينا مراصدا فلكيـــة
كم كشفنا عن الطبيعـة سراً إذ وضعنا قواعدا جبريــة
ها بقايا الأجــداد تنفخ فينا روح فخر وعزمة وطنيـة
سوف تلقى منا رجالاً أسوداً قد أعادوا حياتك الأصليــة
(4) ـ من قصيدة : يــا غرب .
يا غرب لا تنكر أباك فناكر المعروف خاسر
هذا الذي ربّاك طفلاً لا تكن يا غرب غادر
ليست بنو العثمان قوم الترك بل فيهم عناصر
أقسموا أن لا ينامـوا أو يميتوا كــل غادر
فالعرب أشرف أمـة هذا وإن كره المكابـر
6/5/2009 المهندس جورج فارس رباحية
المصــادر والمــراجع :
ـ الشهيد رفيق رزق سلوم : هلال رزق سلوم 1961
ـ تاريخ حمص الجزء 2 : منير الخوري عيسى أسعد 1984
ـ الجذر السكاني الحمصي الجزء 5 : نعيم سليم الزهراوي 2003
ـ مواقع على الإنترنت :