بداية استعمال الأيقونات: المؤرخ أفسابيوس يروي أنه شاهد تمثالاً للرب يسوع في بانياس جبل الشيخ، وأنه شاهد أيقونات حقيقية للرسل. وهناك صورة الرب يسوع المرسَلة إلى ملك الرها الأبجر. وفي الدياميس رسومٌ عديدة. وهناك المنديل الشريف في تورينو إيطاليا الذي ما زال العلماء يكّبون على دراسته. وما يظهر من كنائس قديمة لا يخلو من رسوم. ولكن ليست لدينا كل الرسوم القديمة. إنما هناك شهادة الكنيسة الدائمة وتمسّكها بالأيقونات رغم أنف الأباطرة. أما في رسم الأيقونات فقد تطوّر وقامت مدارس فيه.
حرب الأيقونات: لم تنته الخلافات حول شخص المسيح مع المجمع المسكوني السادس، بل استمرت على شكل آخر طيلة القرنين الثامن والتاسع. وأصبح محور الخلاف موضوع الأيقونات المقدسة، تلك الصور للمسيح ولوالدة الله والقديسين التي كانت تحفظ وتكرم في الكنائس وفي البيوت. وطالب محاربو الأيقونات، الذين كانوا يقفون موقف الحذر من كل فن ديني يصوّر الله أو الكائنات البشرية، بتحطيم الأيقونات. أما مكرّمو الأيقونات، فكانوا يدافعون بقوة عن مكانة هذه الأيقونات في حياة الكنيسة. لم تكن المسألة مجرد مفهومين مختلفين للفن المسيحي، بل كان في الميدان أمور على كثير من الأهمية متعلقة بخصائص طبيعة المسيح الإنسانية والموقف المسيحي تجاه المادة والمعنى الحقيقي للفداء في المسيحية.
ولعلّ محاربي الأيقونات قد تأثروا بآراء يهودية أو إسلامية. ومن الأمور ذات الدلالة، أنه قبل السنوات الثلاث التي سبقت الجولة الأولى لحرب الأيقونات في الأمبراطورية البيزنطية، أمر الخليفة يزيد بن معاوية، بخلع كل الأيقونات الموجودة في أراضي مملكته. ولكن فكرة محاربة الأيقونات لم تأتِ فقط من الخارج، لأنه كان يوجد على الدوام داخل المسيحية، ولكن بصورة كامنة، موقف "متزمت" يرفض الأيقونات لاقتناعه أن في الصور رواسب من عبادة الأصنام الوثنية. وحينما هاجم الأباطرة الايوزوريون الأيقونات لاقوا دعماً لا بأس به من داخل الكنيسة. والقديس ابيفانيوس، أسقف سلاميس (نحو 315-403) مثال لذلك الموقف المتزمت إذ يروى أنه مزق بغضب في كنيسة إحدى القرى بفلسطين ستاراً نُسج عليه وجه المسيح. هذا الموقف كان شائعاً على العموم في آسيا الصغرى. وفي بعض من نواحيها كانت حركة تحطيم الأيقونات نوعاً من الاحتجاج الأسيوي على التقليد اليوناني. فليس من الصدفة إذاًَ أن يكون اثنان من أهم الأباطرة الذين حاربوا الأيقونات، هما ليون الثالث وليون الخامس، ومن أصل آسيوي.
امتدت حرب الأيقونات سحابة مئة وعشرين عاماً، وتقسم هذه الفترة إلى قسمين. بدأت الفترة الأولى السنة 726 مع أول هجوم لليون الثالث ضد الأيقونات وانتهت السنة 780 حين أوقفت الأمبراطورة ايريني أعمال الاضطهاد. وقد أيّد المجمع المسكوني السابع الذي انعقد السنة 787، وعلى غرار المجمع الأول، في نيقية، موقف المدافعين عن الأيقونات. وأعلن المجمع أنه يجب البقاء على الأيقونات في الكنائس وأنه من الواجب تكريمها بنفس آيات الاحترام التي تقابل بها سائر الرموز المادية مثل الصليب الواهب الحياة" والأناجيل المقدسة.
وقام ليون الخامس الأرمني السنة 815 بهجوم جديد على تكريم الأيقونات استمر حتى السنة 843، وهي السنة التي ردّت خلالها الأمبراطورة ثيودورا الاعتبار نهائياً للأيقونات. ويُعرف الانتصار النهائي للأيقونات المقدسة السنة 843 باسم "انتصار الأرثوذكسية"، ويجري التعييد له، في خدمة خاصة يوم "أحد الأرثوذكسية" الذي هو أول آحاد الصوم الأربعيني المقدس. يُعلن خلال هذه الخدمة، الإيمان الحقيقي -الأرثوذكسية- ويُغبَّط المدافعون عنه وتتلى الابسالات ضد جميع الذين يهاجمون الأيقونات المقدسة أو المجامع السبعة: "لا يعترفون بالمجامع الناطقة بكلام الآباء القديسين اللاهوتي الملهج به من الله معتقد الكنيسة الحسن العباردة، فليكونوا ملعونين، ملعونين، ملعونين"
ويُعبر القديس يوحنا الدمشقي أهم المدافعين عن الأيقونات في الفترة الأولى، والقديس ثيودوروس الستودي (759-826) أشهر هؤلاء في الفترة الثانية. ومما سهّل ليوحنا الدمشقي العمل بحرية في دفاعه عن الأيقونات كونه ظلّ مقيماً داخل نطاق أراضٍ خاضعة للحكم الإسلامي، في مأمن من أذية الحكومة البيزنطية. ولم تكن تلك المرة هي الأخيرة التي يُقدم فيها الإسلام من حيث لا يدري على حماية الأرثوذكسية.
من بين خصائص الأرثوذكسية، إعطاؤها مكانة خاصة للأيقونات. فكل كنيسة تزخر بها، وهي تغطي الأيقونسطاس، الجدار الفاصل بين المذبح وصحن الكنيسة. بعضها يوضع في مزارات خارج الكنائس، كما أنه يمكن تغطية جدران الكنائس بأيقونات من الفسيفساء أو الرسم الزيتي. والأرثوذكسي يسجد أما الأيقونة ويقبّلها ويضيء الشموع أمامها. كذلك يبخّرها الكاهن ويحملها أثناء الزياحات الكنسية. فما معنى هذه الأعمال والطقوس؟ ماذا تعني الأيقونات ولماذا اعتبرها يوحنا الدمشقي وكثيرون غيره على هذا القدر من الأهمية؟
سننظر أولاً في تهمة الوثنية التي أطلقها محاربو الأيقونات لمكرميها، ثم في أهمية الأيقونات كوسيلة للتعليم، وأخيراً في أهميتها العقائدية.
تهمة الوثنية: لا يقع الأرثوذكسي في الوثنية حين يُقبِّل الأيقونة أو يسجد أمامها. فالأيقونة ليست صنماً، بل رمزاً وواجب التكريم الذي نبديه لهذه الصور المقدسة ليس موجّهاً إلى المادة المكوَّنة من خشب وألوان أو حجر، بل للشخص الذي تمثله. هذا ما أشار إليه بوضوح ليونتيوس أسقف نيابوليس، (المتوفي حوالي السنة 650 أي قبل ابتداء حرب الأيقونات). قال:
"نحن لا ننحن للخشب كخشب، لكننا نجلّ ذاك الذي مات على الصليب وننحني أمامه... حينما تكون خشبتا الصليب مضمومتين فإنني أسجد لشكلهما بسبب المسيح الذي عُلِّق على الصليب، أما إذا تفككت الخشبتان فإنني أرميهما وأضرم النار فيهما".
وبما أن الأيقونات رموز فقط، فإن الأرثوذكسي لا يعبدها، بل يحترمها أو يكرّمها. وقد ميَّز يوحنا الدمشقي تمييزاً واضحاً بين الطريقة التي تُجَّل بها الأيقونات وتُحترم وبين العبادة الواجبة الله وحده.
الأيقونة كجزء من تعليم الكنيسة: يقول ليونتيوس إن الأيقونات "كتب مفتوحة تذكّرنا بالله"، وهي إحدى الوسائل التي تستخدمها الكنيسة في نقل الإيمان. فمن تعوزه الثقافة، أو من ليس لديه الوقت الكافي لدراسة كتب لاهوتية، ما عليه إلا أن يدخل الكنيسة ليرى أمامه جميع عقائد الدين المسيحي منشورة على الجدران. وإذا طلب إليك وثني أن تشرح له إيمانك، فأدخله إلى الكنيسة، وضعّه وجهاً لوجه أمام الأيقونات.
المعنى العقائدي للأيقونات: ها نحن نصل الآن إلى قلب النزاع حول الأيقونات. وحيث أن الأيقونات مفيدة في مجال التعليم ولا تؤدي إلى الوثنية فهل هي أكثر من مستحبة، بل هل هي ضرورية وهل اقتناء الأيقونات شيء جوهري؟ يزعم مكرّمو الأيقونات أنها هكذا لأنها تصون العقيدة الصحيحة والكاملة للتجسد. ويقولون إنهم متفقين مع محاربي الأيقونات على عدم إمكانية تصوير اله بطبيعته الأزلية "إذ الله لم يره أحد قط" (يو1: 18)، ولكنهم يتابعون أن التجسد قد فسح المحال أمام إمكانية وجود فن ديني تصويري بحيث أنه أصبح من الممكن تصوير الله لأنه تأنس وأخذ جسداً. ويقول الدمشقي أنه بوسعنا رسم صورة مادية لذاك الذي لبس جسداً مادياً:
"لا يمكن رسم الله غير المدرك وغير المحدود. أما الآن وقد ظهر الله في الجسد وعاش بين البشر، فأنا أرسم الله الذي تراه العين. أنا لا أعبد المادة بل خالق المادة الذي استحال مادة من أجلي، ذاك الذي شاء أن يقيم في المادة وجعل خلاصي من طريق المادة. لن أنفك عن إجلال المادة التي جُعل خلاصي من خلالها".
أما محاربو الأيقونات فلم يأخذوا بعين الاعتبار، برفضهم تصوير الله، كل معاني التجسد، وبالتالي وقعوا، على غرار العديد من المتزمتين، بنوع من الثنوية. وبما أنهم اعتبروا المادة شيئاً ملوثَّاً، فقد كانوا يتطلعون إلى تحرير الدين من كل احتكاك مع العالم المادي لاعتقادهم بأن كل ما هو روحي متعارض مع ما هو مادي. لكن هذا الموقف يشكل تنكراً لمفهوم التجسد إذ لا يترك مكاناً لطبيعة المسيح البشرية ولجسده، ويتناسى أن جسد الإنسان، كما روحه، مدعو للخلاص وللتجلي. ويتضح إذاً أن حرب الأيقونات متصلة اتصالاً وثيقاً بالخلافات السابقة حول شخص المسيح وأنها لم تكن مجرد جدال حول الفن الديني بل تتعدى ذلك إلى مفهوم التجسد وخلاص الإنسان.
فالله حين اتخذ له جسداً مادياً برهن أن الخلاص سيشمل المادة. يقول يوحنا الدمشقي: "إن الكلمة الصائر جسداً قد ألّه الجسد". الله "ألّه" المادة وجعلها حاملة للروح". وإذ أصبح الجسد هيكلاً للروح القدس فبوسع الخشب والألوان على طريقتها أن تكون كذلك أيضاً. إن العقيدة الأرثوذكسية المتعلقة بالأيقونات مربوطة ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بأن كل خليقة الله، المادية والروحية، ستذوق الخلاص وتتمجد. إن ما يقوله نقولا زرنوف صحيح، ليس فقط بالنسبة للروس بل بالنسبة للأرثوذكسيين كافة:
"لم تكن (الأيقونات) في نظر الروس مجرد رسوم، بل كانت تعبيراً حيوياً عن مقدرة الإنسان الروحية في خلاص الخليقة من طريق الفن والجمال. إن خطوط (الأيقونات) وألوانها لا تبتغي تقليد الطبيعة، بل قصد من خلالها الرسامون أن يبيّنوا أنه يمكن خلاص الإنسان والحيوان والنبات فضلاً عن الكون بأسره من حالة الانحطاط التي هم يرزحون تحتها واعادتهم إلى "صورتهم" الأصلية. الأيقونة هي عربون نصر الخليقة المفتداة الأتى على الخليقة الساقطة... ولم يكن الكمال الفني للأيقونة مجرد انعكاس للمجد السماوي، بل كان مثالاً حسياً لمادة أُعيدت إلى سابق تجانسها وجمالها، وصارت حاملة للروح القدس. الأيقونات هي جزء من الكون المتجلي".
وكما قال يوحنا الدمشقي: "فالأيقونة نشيد الظفر وإعلان صريح ثابت يشير إلى غلبة القديسين وخزي الشياطين".